قال رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعائك رب شقيا
قال جملة مفسرة لنادى لا محل لها من الإعراب. رب إني وهن العظم مني إسناد الوهن إلى العظم لما أنه عماد البدن، ودعام الجسد، فإذا أصابه الضعف والرخاوة أصاب كله. أو لأنه أشد أجزائه صلابة وقواما، وأقلها تأثرا من العلل فإذا وهن كان ما وراءه أوهن. وإفراده للقصد إلى الجنس المنبئ عن شمول الوهن لكل فرد من أفراده، و "مني" متعلق بمحذوف هو حال من العظم، وقرئ: (وهن) بكسر الهاء وبضمها أيضا، وتأكيد الجملة لإبراز كمال الاعتناء بتحقيق مضمونها. واشتعل الرأس شيبا شبه عليه الصلاة والسلام الشيب في البياض والإنارة بشواظ النار، وانتشاره في الشعر، وفشوه فيه وأخذه منه كل مأخذ باشتعالها، ثم أخرجه مخرج الاستعارة، ثم أسند الاشتعال إلى محل الشعر ومنبته، وأخرجه مخرج التمييز، وأطلق الرأس اكتفاء بما قيد به العظم. وفيه من فنون البلاغة وكمال الجزالة ما لا يخفى حيث كان الأصل اشتعل شيب رأسي، فأسند الاشتعال إلى الرأس كما ذكر لإفادة شموله لكلها، فإن وزانه بالنسبة إلى الأصل، وزان اشتعل بيته نارا بالنسبة إلى اشتعل النار في بيته ولزيادة تقريره بالإجمال أولا، والتفصيل ثانيا. ولمزيد تفخيمه بالتنكير، وقرئ: بإدغام السين في الشين. ولم أكن بدعائك رب شقيا أي: ولم أكن بدعائي إياك خائبا في وقت من أوقات هذا العمر الطويل بل كلما دعوتك استجبت لي. والجملة معطوفة على ما قبلها، أو حال من ضمير المتكلم إذ المعنى: واشتعل رأسي شيبا. وهذا توسل منه عليه الصلاة والسلام بما سلف منه من الاستجابة عند كل دعوة إثر تمهيد ما يستدعي الرحمة، ويستجلب الرأفة من كبر السن وضعف الحال، فإنه تعالى بعد ما عود عبده بالإجابة دهرا طويلا لا يكاد [ ص: 254 ] يخيبه أبدا، لا سيما عند اضطراره، وشدة افتقاره، والتعرض في الموضعين لوصف الربوبية المنبئة عن إضافة ما فيه صلاح المربوب مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام لا سيما توسيطه بين كان وخبرها لتحريك سلسلة الإجابة بالمبالغة في التضرع، ولذلك قيل: إذا أراد العبد أن يستجاب له دعاؤه فليدع الله تعالى بما يناسبه من أسمائه وصفاته. وإني خفت الموالي عطف على قوله تعالى: "إني وهن العظم" مترتب مضمونه على مضمونه فإن ضعف القوى وكبر السن من مبادئ خوفه عليه السلام من يلي أمره بعد موته، ومواليه بنو عمه، وكانوا أشرار بني إسرائيل فخاف أن لا يحسنوا خلافته في أمته، ويبدلوا عليهم دينهم، وقوله: