وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين
وإذ أخذ ربك منصوب بمضمر معطوف على ما انتصب به ; إذ نتقنا مسوق للاحتجاج على اليهود بتذكير الميثاق العام المنتظم للناس قاطبة ، وتوبيخهم بنقضه إثر الاحتجاج عليهم بتذكير ميثاق الطور ، وتعليق الذكر بالوقت مع أن المقصود تذكير ما وقع فيه من الحوادث ، قد مر بيانه مرارا ; أي : واذكر لهم أخذ ربك .
من بني آدم المراد بهم : الذين ولد لهم كائنا من كان ، نسلا بعد نسل ، سوى من لم يولد له بسبب من الأسباب ، كالعقم ، وعدم التزوج ، والموت صغيرا ، وإيثار الأخذ على الإخراج للإيذان بالاعتناء بشأن المأخوذ ، لما فيه من الأنباء عن الاجتباء والاصطفاء ، وهو السبب في إسناده إلى اسم الرب بطريق الالتفات مع ما فيه من التمهيد للاستفهام الآتي ، وإضافته إلى ضميره صلى الله عليه وسلم للتشريف .
وقوله تعالى : من ظهورهم بدل من " بني آدم " بدل البعض بتكرير الجار ، كما في قوله تعالى : للذين استضعفوا لمن آمن منهم .
و" من " في الموضعين ابتدائية ، وفيه مزيد تقرير لابتنائه على البيان بعد الإبهام ، والتفصيل غب الإجمال ، وتنبيه على أن الميثاق قد أخذ منهم وهم في أصلاب الآباء ، ولم يستودعوا في أرحام الأمهات .
وقوله تعالى : ذريتهم مفعول أخذ أخر عن المفعول بواسطة الجار ، لاشتماله على ضمير راجع إليه ، ولمراعاة أصالته ومنشئيته ، ولما مر مرارا من التشويق إلى المؤخر ، وقرئ : ( ذرياتهم ) ، والمراد بهم : أولادهم على العموم ، فيندرج فيهم اليهود المعاصرون لرسول الله صلى الله عليه وسلم اندراجا أوليا ، كما اندرج أسلافهم في بني آدم كذلك ، وتخصيصهما باليهود سلفا وخلفا ، مع أن ما أريد بيانه من بديع صنع الله تعالى عز وجل شامل للكل كافة ، مخل بفخامة التنزيل وجزالة التمثيل .
وأشهدهم على أنفسهم ; أي : أشهد كل واحدة من أولئك الذريات المأخوذين من [ ص: 290 ] ظهور آبائهم على نفسها لا على غيرها ، تقريرا لهم بربوبيته التامة وما تستتبعه من المعبودية على الاختصاص ، وغير ذلك من أحكامها .
وقوله تعالى : ألست بربكم على إرادة القول ; أي : قائلا : ألست بربكم ومالك أمركم ، ومربيكم على الإطلاق من غير أن يكون لأحد مدخل في شأن من شئونكم ، فينتظم استحقاق المعبودية ويستلزم اختصاصه به تعالى .
قالوا استئناف مبني على سؤال نشأ من الكلام ، كأنه قيل : فماذا قالوا حينئذ ؟ فقيل : قالوا .
بلى شهدنا ; أي : على أنفسنا بأنك ربنا وإلهنا لا رب لنا غيرك ، كما ورد في الحديث الشريف ، وهذا تمثيل لخلقه تعالى إياهم جميعا في مبدأ الفطرة ، مستعدين للاستدلال بالدلائل المنصوبة في الآفاق ، والأنفس المؤدية إلى التوحيد والإسلام ، كما ينطق به قوله صلى الله عليه وسلم : " " الحديث . كل مولود يولد على الفطرة
مبني على تشبيه الهيئة المنتزعة من تعريضه تعالى إياهم لمعرفة ربوبيته بعد تمكينهم منها ، بما ركز فيهم من العقول والبصائر ، ونصب لهم في الآفاق والأنفس من الدلائل تمكينا تاما ، ومن تمكنهم منها تمكنا كاملا ، وتعرضهم لها تعرضا قويا ، بهيئة منتزعة من حمله تعالى إياهم على الاعتراف بها بطريق الأمر ، ومن مسارعتهم إلى ذلك من غير تلعثم أصلا ، من غير أن يكون هناك أخذ وإشهاد ، وسؤال وجواب ، كما في قوله تعالى : فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين .
وقوله تعالى : أن تقولوا بالتاء على تلوين الخطاب ، وصرفه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى معاصريه من اليهود ، تشديدا في الإلزام ، أو إليهم وإلى متقدميهم بطريق التغليب ، لكن لا من حيث إنهم مخاطبون بقوله تعالى : " ألست بربكم " ; فإنه ليس من الكلام المحكي .
وقرئ بالياء على أن الضمير للذرية ، وأيا ما كان فهو مفعول له لما قبله من الأخذ والإشهاد ; أي : فعلنا ما فعلنا كراهة أن تقولوا ، أو لئلا تقولوا أيها الكفرة ، أو يقولوا هم .
يوم القيامة عند ظهور الأمر .
إنا كنا عن هذا عن وحدانية الربوبية وأحكامها .
غافلين لم ننبه عليه ، فإنهم حيث جبلوا على ما ذكر من التهيؤ التام لتحقيق الحق ، والقوة القريبة من الفعل ، صاروا محجوجين عاجزين عن الاعتذار بذلك ; إذ لا سبيل لأحد إلى إنكار ما ذكر من خلقهم على الفطرة السليمة .