أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ألكم الذكر وله الأنثى تلك إذا قسمة ضيزى إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى أم للإنسان ما تمنى فلله الآخرة والأولى وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى
قوله تعالى: "أفرأيتم" مخاطبة لقريش، وهي من رؤية العين لأنه أحال على أجرام مرئية، ولو كانت "رأى" التي هي استفتاء لم تتعد.
ولما فرغ من ذكر عظمة الله وقدرته قال -على جهة التوقيف-: أرأيتم هذه الأوثان وحقارتها وبعدها عن هذه القدرة والصفات العلية؟.
و"اللات" اسم صنم كانت العرب تعظمه، قال وغيره: كان في أبو عبيدة الكعبة، وقال [ ص: 116 ] : كان قتادة بالطائف، وقال : كان بنخلة عند ابن زيد سوق عكاظ، وقول أرجح، يؤيده قول الشاعر: قتادة
وفرت ثقيف إلى لاتها بمنقلب الخائب الخاسر
والتاء في "اللات" لام فعل كالباء من "باب، وقال قوم هي تاء التأنيث، والتصريف يمنع ذلك، وقرأ ، ابن عباس ، ومجاهد وأبو صالح : "اللات" بشد التاء، وقالوا: كان هذا الصنم حجرا وكان عنده رجل من بهز يلت سويق الحاج على ذلك الحجر ويخدم الأصنام، فلما مات عبدوا الحجر الذي كان عنده إجلالا لذلك الرجل وسموه باسمه، ورويت هذه القراءة عن ، ابن كثير . وابن عامر
و"العزى" صخرة بيضاء كانت العرب أيضا تعبدها وتعظمها، قاله ، وقال سعيد بن جبير : كانت شجيرات تعبد ثم لما بليت انتقل أمرها إلى صخرة، و "عزى" مؤنثة "عزيز" ككبرى وعظمى، وكانت هذه الأوثان تعظم وتعبد، الوثن منها قبيلة وتعظمه، ويجيء كل من عز مجاهد العرب فيعظمها بتعظيم حاضرها، وقال : كانت العزى ومناة في أبو عبيدة معمر الكعبة، وقال : وكانت العزى في ابن زيد الطائف، وقال : كانت قتادة بنخلة، وأما مناة فكانت بالمشلل من قديد، وذلك بين مكة والمدينة، وكانت أعظم هذه الأوثان قدرا، وأكثرها عابدا، وكانت الأوس والخزرج تهل لها، ولذلك قال الله تعالى: ومناة الثالثة الأخرى فأكدها بهاتين الصفتين، كما تقول: رأيت فلانا وفلانا، ثم تذكر ثالثا أجل منهما فتقول: وفلانا الآخر الذي من أمره وشأنه، ولفظة "آخر" و"أخرى" يوصف بهما الثالث من المعدودات، وذلك نص في الآية، ومنه قول ربيعة بن مكدم:
ولقد شفعتهما بآخر ثالث
[ ص: 117 ] وهو التأويل الصحيح في قول الشاعر :
جعلت لها عودين من نشم وآخر من ثمامه
وقرأ وحده: "ومناءة" بالهمز والمد، وهي لغة فيها، والأول أشهر وهي قراءة الناس، ومنها قول ابن كثر جرير :
أزيد مناة توعد بابن تيم تأمل أين تاه بك الوعيد
وقف تعالى الكفار على هذه الأوثان وعلى قولهم فيها; لأنهم كانوا يقولون: هي بنات الله، فكأنه قال: أرأيتم هذه الأوثان وقولكم هي بنات الله؟ ألكم الذكر وله الأنثى؟ أي: النوع المستحسن المحبوب هو لكم موجود فيكم والمذموم المستثقل عندكم هو له بزعمكم؟ ثم قال تعالى -على جهة الإنكار-: تلك إذا قسمة ضيزى ، أي: عوجاء، قاله ، وقيل "ضيزى" معناه: جائرة، قاله مجاهد ابن عباس ، وقال وقتادة : معناه: منقوصة، وقال سفيان : معناه: مخالفة، ابن زيد والعرب تقول: "ضزته حقه أضيزه" بمعنى: منعته منه وظلمته فيه، و"ضيزى" من هذا التصريف، وأصلها فعلى بضم الفاء "ضوزى" لأنه القياس; إذ لا يوجد في الصفات فعلى بكسر الفاء، كذا قال وغيره، فإذا كان هذا فهي "ضوزى" كسروا أولها كما كسر أول "عين وبيض" طلبا [ ص: 118 ] للتخفيف; إذ الكسرة والياء أخف من الضمة والواو، كما قالوا: "بيوت وعصي" وهي في الأصل فعول بضم الفاء، وتقول سيبويه العرب: "ضزته أضوزه"، فكان يلزم على هذا التصريف أن تكون "ضوزى" فعلى، وفي جميع هذا نظر، وقرأ "ضئزى" بالهمز على أنه مصدر كذكرى، وقرأ الجمهور بغير همز. ابن كثر:
ثم قال تعالى: إن هي إلا أسماء ، يعني: تعالى أن هذه الأوصاف - من أنها إناث، وأنها تعبد من دون الله آلهة ونحو هذا- ما هي إلا أسماء ، أي: تسميات اخترعتموها أنتم وآباؤكم لا حقيقة لها، ولا أنزل الله تعالى بها برهانا ولا حجة، وقرأ : "سلطان" بضم اللام، وقرأ هو عيسى بن عمر ، وابن مسعود ، وابن عباس ، وابن وثاب ، وطلحة : "إن يتبعون" بالياء على الحكاية عن الغائب. والأعمش
و"الظن": ميل النفس إلى أحد معتقدين متخالفين دون أن يكون ميلها بحجة ولا برهان، و"هوى الأنفس" هو إرادتها الملذة لها، وإنما تجد هوى النفس دائما في ترك الأفضل لأنها مجبولة بطبعها على حب الملذ، وإنما يردعها ويسوقها إلى حسن العاقبة العقل والشرع.
وقوله تعالى: ولقد جاءهم من ربهم الهدى اعتراض بين الكلامين فيه توبيخ لهم; لأن سرد القول إنما هو:"إن يتبعون إلا الباطل وما تهوى الأنفس أم للإنسان ما تمنى"، ثم اعترض بعد قوله تعالى: وما تهوى الأنفس بقوله تعالى: ولقد جاءهم من ربهم الهدى ، أي: يفعلون هذه القبائح والهدى حاضر والحال هذه، فقوله تعالى: ولقد جاءهم من ربهم الهدى جملة في موضع الحال. و"الهدى" المشار إليه هو محمد صلى الله عليه وسلم وشرعه، وقرأ ، ابن مسعود رضي الله عنهم: "ولقد جاءكم من ربكم" بالكاف فيهما، وقال وابن عباس عنهما: إنهما قرآ: "ولقد جاءك من ربك" . الضحاك
و "الإنسان" في قوله تعالى: أم للإنسان ما تمنى اسم الجنس، كأنه يقول: ليست الأشياء بالتمني والشهوات، إنما الأمر كله لله تعالى، والأعمال جارية على قانون أمره ونهيه، فليس لكم، أيها الكفرة مرادكم في قولكم: "هذه آلهتنا وهي تشفع لنا وتقربنا زلفى" ونحو هذا. وقال ، ابن زيد : الإنسان هنا هو والطبري محمد صلى الله عليه وسلم، بمعنى أنه لم ينل كرامتنا بتأميل بل بفضل من الله تعالى، أو بمعنى: بل إنه تمنى كرامتنا فنالها; إذ [ ص: 119 ] الكل لله يهب ما شاء، وهذا ما تقتضيه الآية وإن كان اللفظ يعمه.
و"الآخرة والأولى" الداران، أي: له كل أمرهما ملكا ومقدورا وتحت سلطانه.
وقوله تعالى: وكم من ملك الآية... رد على قريش في قولهم: "الأوثان شفعاؤنا"، كأنه تعالى يقول: هذه حال الملائكة الكرام فكيف بأوثانكم؟ و"كم" للتكثير، وهي في موضع رفع بالابتداء، والخبر "لا تغني"، والغنى:، جلب النفع ودفع الضر بحسب الأمر الذي يكون فيه الغنى، وجمع الضمير في "شفاعتهم" على معنى "كم" ومعنى الآية أن يأذن الله تعالى في أن يشفع لشخص ما يرضى عنه كما أذن في قوله تعالى: الذين يحملون العرش ومن حوله .