واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا فاتخذت من دونهم حجابا فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا
"إذ" بدل من "مريم" : بدل الاشتمال ؛ لأن الأحيان مشتملة على ما فيها ، وفي أن المقصود بذكر مريم ذكر وقتها هذا ؛ لوقوع هذه القصة العجيبة فيه ، والانتباذ : الاعتزال والانفراد ، تخلت للعبادة في مكان مما يلي شرقي بيت المقدس ، أو من دارها معتزلة عن الناس ، وقيل : قعدت في مشرفة للاغتسال من الحيض محتجبة بحائط أو بشيء يسترها ، وكان موضعها المسجد ، فإذا حاضت تحولت إلى بيت خالتها ، فإذا طهرت عادت إلى المسجد ، فبينا هي في مغتسلها ، أتاها الملك في صورة آدمي شاب أمرد ، وضيء الوجه ، جعد الشعر ، سوي الخلق ، لم ينتقص من الصورة الآدمية شيئا ، أو حسن الصورة مستوي الخلق ؛ وإنما مثل لها في صورة الإنسان لتستأنس بكلامه ولا تنفر عنه ولو بدا لها في الصورة الملكية ، لنفرت ولم تقدر على استماع كلامه ، ودل على عفافها وورعها أنها تعوذت بالله من تلك الصورة الجميلة الفائقة الحسن ، وكان تمثيله على تلك الصفة ابتلاء لها وسبرا لعفتها ، وقيل : كانت في منزل زوج أختها زكريا ، ولها محراب على حدة تسكنه ، وكان زكريا إذا خرج أغلق عليها الباب ، فتمنت أن تجد خلوة في الجبل لتفلي رأسها ، فانفجر السقف لها ، فخرجت فجلست في المشرفة وراء الجبل فأتاها الملك . وقيل : قام بين يديها في صورة ترب لها اسمه يوسف من خدم بيت المقدس ، وقيل : إن النصارى اتخذت المشرق قبله لانتباذ مريم مكانا شرقيا ، الروح : جبريل ؛ لأن الدين يحيا به وبوحيه ، أو سماه الله روحه : على المجاز ؛ محبة له وتقريبا ، كما تقول لحبيبك : أنت روحي ، وقرأ أبو حيوة : " روحنا " بالفتح ؛ لأنه سبب لما فيه روح العباد ، وإصابة الروح عند الله الذي هو عدة المقربين في قوله : فأما إن كان من المقربين فروح وريحان [الواقعة : 88 - 89 ] أو ؛ لأنه من المقربين ، وهم : الموعودون بالروح ، أي : مقربنا وذا روحنا .