سيقولون : الضمير: لمن خاض في قصتهم في زمن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أهل الكتاب والمؤمنين، سألوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عنهم فأخر الجواب إلى أن يوحى إليه فيهم، فنزلت إخبارا بما سيجري بينهم من اختلافهم في عددهم، وأن المصيب منهم من يقول: سبعة وثامنهم كلبهم، قال رضي الله عنه: أنا من أولئك القليل، وروي أن السيد والعاقب وأصحابهما من أهل ابن عباس نجران كانوا عند النبي -صلى الله عليه وسلم- فجرى ذكر فقال السيد وكان يعقوبيا: كانوا ثلاثة رابعهم كلبهم، وقال العاقب وكان نسطوريا: كانوا خمسة سادسهم كلبهم، وقال المسلمون: كانوا سبعة وثامنهم كلبهم، فحقق الله قول المسلمين، وإنما عرفوا ذلك بإخبار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن لسان أصحاب الكهف، جبريل عليه السلام، وعن رضي الله عنه : هم سبعة نفر أسماؤهم: علي يمليخا، ومكشليتيا، ومشلينيا: هؤلاء أصحاب يمين الملك، وكان عن يساره: مرنوش، ودبرنوش، وشادنوش، وكان يستشير هؤلاء الستة في أمره، والسابع: الراعي الذي وافقهم حين هربوا من ملكهم دقيانوس، واسم مدينتهم: أفسوس، واسم كلبهم: قطمي.
[ ص: 576 ] فإن قلت: لم جاء بسين الاستقبال في الأول دون الآخرين ؟
قلت: فيه وجهان: أن تدخل الآخرين في حكم السين، كما تقول: قد أكرم وأنعم، تريد: معنى التوقع في الفعلين جميعا، وأن تريد بيفعل معنى الاستقبال الذي هو صالح له، رجما بالغيب : رميا بالخبر الخفي وإتيانا به; كقوله: ويقذفون بالغيب [سبأ: 53] أي: يأتون به، أو وضع الرجم موضع الظن، فكأنه قيل: ظنا بالغيب; لأنهم أكثروا أن يقولوا رجم بالظن مكان قولهم ظن، حتى لم يبق عندهم فرق بين العبارتين، ألا ترى إلى قول زهير [من الطويل]:
.......................... ... وما هو عنها بالحديث المرجم
أي: المظنون، وقرئ : "ثلاث رابعهم" بإدغام الثاء في تاء التأنيث، و "ثلاثة": خبر مبتدأ محذوف، أي: هم ثلاثة، وكذلك: "خمسة"، و "سبعة" و رابعهم كلبهم : جملة من مبتدأ وخبر واقعة صفة لثلاثة، وكذلك: سادسهم كلبهم ، وثامنهم كلبهم .
فإن قلت: فما هذه الواو الداخلة على الجملة الثالثة، ولم دخلت عليها دون الأولين ؟ [ ص: 578 ] قلت: هي الواو التي تدخل على الجملة الواقعة صفة للنكرة، كما تدخل على الواقعة حالا عن المعرفة في نحو قولك: جاءني رجل ومعه آخر، ومررت بزيد وفي يده سيف، ومنه قوله تعالى: وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم [الحجر: 4]، وفائدتها: تأكيد لصوق الصفة بالموصوف، والدلالة على أن اتصافه بها أمر ثابت مستقر، وهذه الواو هي التي آذنت بأن الذين قالوا: سبعة وثامنهم كلبهم، قالوه عن ثبات علم، وطمأنينة نفس، ولم يرجموا بالظن كما غيرهم، والدليل عليه أن الله سبحانه أتبع القولين الأولين قوله: رجما بالغيب ، وأتبع القول الثالث قوله: ما يعلمهم إلا قليل ، وقال رضي الله عنه: حين وقعت الواو انقطعت العدة، أي: لم يبق بعدها عدة عاد يلتفت إليها، وثبت أنهم سبعة وثامنهم كلبهم على القطع والبتات، وقيل: إلا قليل من أهل الكتاب، والضمير في "سيقولون": على هذا لأهل الكتاب خاصة، أي: سيقول أهل الكتاب فيهم كذا وكذا، ولا علم بذلك إلا في قليل منهم، وأكثرهم على ظن وتخمين، ابن عباس فلا تمار فيهم : فلا تجادل أهل الكتاب في شأن أصحاب الكهف إلا جدالا ظاهرا غير متعمق فيه، وهو أن تقص عليهم ما أوحى الله إليك فحسب، ولا تزيد، من غير تجهيل لهم ولا تعنيف بهم في الرد عليهم، كما قال: وجادلهم بالتي هي أحسن [النحل: 125]، ولا تستفت : ولا تسأل أحدا منهم عن قصتهم سؤال متعنت له، حتى يقول شيئا فترده عليه وتزيف ما عنده ; لأن ذلك خلاف ما وصيت به من المداراة والمجاملة، ولا سؤال مسترشد ; لأن الله قد أرشدك بأن أوحى إليك قصتهم.