وتولى عنهم : وأعرض عنهم; كراهة لما جاؤوا به، يا أسفى : أضاف الأسف وهو أشد الحزن والحسرة إلى نفسه، والألف بدل من ياء الإضافة، والتجانس بين لفظتي الأسف ويوسف مما يقع مطبوعا غير متعمل فيملح ويبدع، ونحوه: اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم [التوبة: 38]، وهم ينهون عنه وينأون عنه [النمل: 22]، يحسبون أنهم يحسنون [النمل:22]، من سبإ بنبإ [النمل: 22]، وعن النبي -صلى الله عليه وسلم-: محمد صلى الله عليه وسلم"، ألا ترى إلى [ ص: 316 ] "لم تعط أمة من الأمم -إنا لله وإنا إليه راجعون- عند المصيبة إلا أمة يعقوب حين أصابه ما أصابه لم يسترجع، وإنما قال: "يا أسفي".
فإن قلت: كيف تأسف على يوسف دون أخيه ودون الثالث، والرزء الأحدث أشد على النفس وأظهر أثرا ؟
قلت: هو دليل على تمادي أسفه على يوسف، وأنه لم يقع فائت عنده موقعه، وأن الرزء فيه مع تقادم عهده كان غضا عنده طريا [من الطويل]:
فلم تنسني أوفي المصيبات بعده ... ................................
ولأن الرزء في يوسف كان قاعدة مصيباته التي ترتبت عليها الرزايا في ولده، فكان الأسف عليه أسفا على من لحق به، وابيضت عيناه : إذا كثر الاستعبار محقت العبرة سواد العين وقلبته إلى بياض كدر، قيل: قد عمي بصره، وقيل: كان يدرك إدراكا ضعيفا، قرئ: "من الحزن"، "ومن الحزن"، الحزن كان سبب البكاء الذي حدث منه البياض، [ ص: 317 ] فكأنه حدث من الحزن، قيل: ما جفت عينا يعقوب من وقت فراق يوسف إلى حين لقائه ثمانين عاما، وما على وجه الأرض أكرم على الله من يعقوب، وعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه سأل جبريل -عليه السلام-: "ما بلغ من وجد يعقوب على يوسف ؟ قال: وجد سبعين ثكلى، قال: فما كان له من الأجر؟ قال: أجر مائة شهيد، وما ساء ظنه بالله ساعة قط".
فإن قلت: كيف جاز لنبي الله أن يبلغ به الجزع ذلك المبلغ ؟
قلت: الإنسان مجبول على ألا يملك نفسه عند الشدائد من الحزن، ولذلك حمد صبره وأن يضبط نفسه حتى لا يخرج إلى ما لا يحسن، ولقد إبراهيم وقال: "القلب يجزع، والعين تدمع، ولا نقول ما يسخط الرب، وإنا عليك يا إبراهيم لمحزونون"; وإنما الجزع المذموم ما يقع من الجهلة من الصياح والنياحة، ولطم الصدور والوجوه، وتمزيق الثياب، وعن النبي -صلى الله عليه وسلم- بكى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على ولده وعن أنه بكى على ولد بعض بناته، وهو يجود بنفسه، فقيل: يا رسول الله، تبكي وقد نهيتنا عن البكاء؟ فقال: "ما نهيتكم عن البكاء; وإنما نهيتكم عن صوتين أحمقين: صوت عند الفرح، وصوت عند الترح"، أنه بكى على ولد أو غيره، فقيل له في ذلك، فقال: ما [ ص: 318 ] رأيت الله جعل الحزن عارا على الحسن يعقوب، فهو كظيم : فهو مملوء من الغيظ على أولاده ولا يظهر ما يسوؤهم، فعيل بمعنى: مفعول، بدليل قوله: "وهو مكظوم": من كظم السقاء إذا شده على ملئه، والكظم بفتح الظاء: مخرج النفس، يقال: أخذ بأكظامه.