وبعد أن مهد من أول الفصل إلى هنا ما يثبت به الوصف المقتضي للاستحقاق شرع في بيان قدر ما يعطاه كل فقال : ؛ لأن وجوب الزكاة لا يعود إلا بمضيها . ( قلت : الأصح المنصوص ) في الأم ( وقول الجمهور ) يعطى ( كفاية العمر الغالب ) أي : ما بقي منه ؛ لأن القصد إغناؤه ، ولا يحصل إلا بذلك فإن زاد عمره عليه فيظهر أنه يعطى سنة إذ لا حد للزائد عليها ، ثم رأيت جزم بعضهم الآتي ، وهو صريح فيه ، أما من يحسن حرفة تكفيه الكفاية اللائقة به كما مر أول الباب فيعطى ثمن آلة حرفته ، وإن كثر ، وظاهر أن المراد بإعطاء ذلك له الإذن له في الشراء ، أو الشراء له نظير ما يأتي [ ص: 165 ] أو تجارة فيعطى رأس مال يكفيه كذلك ربحه غالبا باعتبار عادة بلده فيما يظهر ، ويختلف ذلك باختلاف الأشخاص والنواحي وقدروه في أرباب المتاجر بما كانوا يتعارفونه ، وأما الآن فلا ينضبط إلا بما ذكرته ، ثم رأيت بعضهم صرح بذلك ولو أحسن أكثر من حرفة ، والكل يكفيه أعطي ثمن ، أو رأس مال الأدنى ، وإن كفاه بعضهم فقط أعطي له ، وإن لم يكفه واحدة منها أعطي لواحدة وزيد له شراء عقار يتم دخله بقية كفايته فيما يظهر . ( ويعطى الفقير والمسكين ) اللذان لا يحسنان التكسب بحرفة ولا تجارة ( كفاية سنة )
( تنبيه )
لم أر لأحد هنا بيان قدر العمر الغالب ، والذي دلت عليه الأحاديث أنه ما بين الستين والسبعين من الولادة ، وعليه فهل العبرة هنا بالستين فقط ؛ لأنها المتيقن دخولها أو بالسبعين احتياطا للأخذ كل محتمل ، وقد يؤخذ ترجيح هذا من أنا إذا قلنا في المفقود بالتقدير يكون سبعين ، وقيل : ثمانين ، وقيل : تسعين ، وقيل : مائة وقيل : مائة وعشرين فالسبعون أقل ما قيل على هذا فالأخذ بها هنا غير بعيد ، وإن أمكن الفرق بين البابين ، ثم رأيت بعضهم جزم هنا بأنه ستون ، وبعدها يعطى كفاية سنة ، ثم سنة وهكذا وليس المراد بإعطاء من لا يحسن ذلك إعطاء نقد يكفيه تلك المدة لتعذره ، بل ثمن ما يكفيه دخله ( فيشتري به ) إن أذن له الإمام ، وكان رشيدا ، وإلا فوليه ( عقارا ) ، أو نحو ماشية إن كان من أهلها . ( يستغله ) ويغتني به عن الزكاة فيملكه ويورث عنه . ( والله أعلم ) للمصلحة العائدة عليه ؛ لأن الفرض أنه لا يحسن تجارة ولا حرفة ، والأوجه كما أفهمه قولي : إن أذن له الإمام أخذا من كلام الزركشي ، وغيره ، وأفهمه كلام المحرر أن للإمام دون المالك شراءه له نظير ما يأتي في الغازي ، وله أن يلزمه بالشراء وعدم إخراجه عن ملكه لما في ذلك من المصلحة العامة فلم ينظر لما فيه من جبر الرشيد ، وحينئذ ليس له إخراجه فلا يحل . كالقاضي أبي الطيب
ولا يصح فيما يظهر ، وعلى بقية المستحقين بإغنائه عنهم ولو ملك هذا دون كفاية العمر الغالب كمل له من الزكاة كفايته كما بحثه السبكي ، وأطال في الرد على بعض معاصريه في اشتراط اتصافه يوم الإعطاء بالفقر والمسكنة أي : باحتياجه حينئذ للمعطي ، ويؤيد الأول قول الماوردي لو كان معه تسعون ولا يكفيه إلا ربح مائة أعطي العشرة الأخرى ، وإن كفته التسعون لو أنفقها من غير اكتساب فيها سنين لا تبلغ العمر الغالب فإن قلت : إذا تقرر أنه يشتري له عقار يكفيه دخله بطل اعتبار العمر الغالب ؛ لأن الغالب في العقار بقاؤه أكثر منه قلت : ممنوع ؛ لأن العقارات مختلفة في البقاء عادة ، وعند أهل الخبرة فيعطى لمن بقي من عمره الغالب عشرة مثلا عقار يبقى عشرة ، وهكذا على أن الذي يظهر أنه ليس المراد منع إعطاء عقار يزيد بقاؤه على العمر الغالب بل منع إعطاء ما ينقص عنه .
وأما ما يساويه ، أو يزيد عليه فإن وجدا تعين الأول ، أو الثاني فقط اشتري له [ ص: 166 ] ولا أثر للزيادة للضرورة ، ويظهر أيضا فيما لو عرض انهدام عقاره المعطى أثناء المدة أنه يعطى ما يعمره به عمارة تبقى بقية المدة نعم إن فرض وجود مبنى أخف من عمارة ذاك لم يبعد أن يقال : يتعين شراؤه له ، ويباع ذاك ويوزن ثمنه في هذا ، هذا كله في غير محصورين أما المحصورون فسيأتي أنهم يملكونه ، وهل ملكهم له بعدد رءوسهم ، أو قدر حاجاتهم ، أو لا يملكون إلا الكفاية دون الزائد عليها ؟ . تردد فيهالدميري وغيره ، والذي يظهر أنهم يملكون ما يكفيهم على قدر حاجاتهم ولا ينافيه ما يأتي من الاكتفاء بأقل متمول لأحدهم ؛ لأن محله كما هو ظاهر حيث لا ملك ، ويفرق بأن ذاك منوط بالمفرق لا بمستحق معين فنظر فيه لاجتهاده ورعاية الحاجة الواجبة على الإمام ، أو نائبه إنما تقتضي الإثم عند الإخلال بها لا منع الإجزاء ، وهذا الملك فيه منوط بوقت الوجوب لمعين فلا ينظر للمفرق ، وحينئذ فلا مرجح إلا الكفاية ، فوجب ملكهم بحسبها ، وأن الفاضل عنها يحفظ حتى يوجد غيرهم ، وقول السبكي لو زادت الزكاة على كفاية المستحقين لكثرتها وقلتهم لزمه قسمتها كلها عليهم ، وينتقل بعدهم لورثتهم فيه نظر ، بل الوجه ما يصرح به كلامهم كما اعترف به ثم ، أوله أن ما زاد من الزكوات على كفايتهم يحفظ لوجودهم