( مسألة ) وقال ابن القاسم في قال : لا أرى أن تجوز شهادتهم وأراهم قذفة . ورواها أربعة نفر شهدوا على رجل بالزنا فتعلقوا به فأتوا به إلى السلطان وشهدوا عليه في كتاب الحدود ، وقال أصبغ محمد بن رشد : إنما لم تجز شهادتهم ; لأن ما فعلوا من أخذه وتعلقهم به ورفعهم إياه إلى السلطان لا يلزمهم ولا يجب عليهم بل هو مكروه لهم ; لأن الإنسان مأمور بالستر على نفسه وغيره قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { } { من أصاب من هذه القاذورات شيئا فليستتر بستر الله فإنه من يبد لنا صفحته نقم عليه كتاب الله لهزال يا هزال لو سترته بردائك لكان خيرا لك } [ ص: 163 ] فلما فعلوا ذلك صاروا ظالمين له ومدعين الزنا عليه وقذفة له فوجب عليهم الحد له إلا أن يأتوا بأربعة شهداء سواهم على معاينة الفعل كالمرود في المكحلة ، ولو كانوا أصحاب شرطة موكلين بتغيير المنكر ورفعه أو أحدهم فأخذوه أو أخذه فجاءوا به فشهدوا عليه لقبلت شهادتهم ; لأنهم فعلوا في أخذه ورفعه ما يلزمهم على قياس قوله في المسألة التي قبلها وفي الواضحة وقال لمطرف وابن الماجشون وأصبغ أنه إذا شهد أربعة بالزنا على رجل جازت شهادتهم وإن كانوا هم القائمين بذلك مجتمعين جاءوا أو مفترقين إذا كان افتراقهم قريب بعضه من بعض ووجه ذلك أنه لما كان ما فعلوا من قيامهم عليه مباحا لهم - وإن كان الستر أفضل - لم يكونوا خصماء إذ لم يقوموا لأنفسهم وإنما قاموا لله وقد مضى هذا الاختلاف مجردا عن التوجيه في أول رسم من هذا السماع
ولو كانت الشهادة فيما يستدام فيه التحريم من حقوق الله كالطلاق والعتاق لجازت شهادتهما في ذلك وإن كانا هما القائمين بذلك ; لأن القيام بذلك متعين عليهما ، وقد قال بعض المتأخرين : إن ذلك لا يجوز على مذهب ابن القاسم وقوله في هذه المسألة خلافا لمطرف وابن الماجشون ووجه ذلك أن كل من قام في حق يريد إتمامه فهو يتهم أن يزيد في شهادته ليتم ما قام فيه وهو عندي بعيد انتهى . وكررها في سماع من كتاب الحدود والقذف وذكر أصبغ ابن رشد كلامه عليها بالحرف وأشار إلى أنه قدمه غير أنه زاد بعد قوله في آخر الشرح وابن الماجشون لفظ وأصبغ وهو ظاهر ، وقال بعده : ووجه ذلك بأن كل من قام إلى آخر ما تقدم ، فجعل وجه فعلا ماضيا مسندا إلى ضمير بعض المتأخرين كذا رأيته هناك مضبوطا بالقلم ويدل عليه قوله : " بأن " بإدخال الباء على أن بخلاف ما في هذا المحل فإنه وجه فيه مصدر مما يظهر ، ويدل عليه إدخال اللام على أن والظاهر ما في الحدود فلعل ما هنا تصحيف من الناسخ والله أعلم .
وفي تعليله شيء فإنه في أول الكلام جعل فعلهم من الرفع وعدم الستر مكروها ثم جعله مباحا ، والمباح مباين للمكروه ولعله أراد الجائز فإنه يطلق على ما يشمل المكروه والمباح والمندوب والواجب كما تقدم أول الكتاب عن القرافي قال ابن عرفة بعد أن ذكر كلام ابن رشد المتقدم في الكلام على العداوة قلت فشهادة من رفع من شهد عليه لأنه مولى على ذلك مقبولة وفي غير المولى ثالثها إن كان فيما يستدام فيه التحريم الأول للأخوين ، الثاني لبعض المتأخرين على قياس قول ابن القاسم فيما لا يستدام تحريمه ، الثالث لابن رشد محتجا بأن القيام به متعين انتهى . وقال ابن عرفة في هذا المحل : قال المازري : واختلف إذا قام الشهود وخاصموا في حقوق الله فأسقط ابن القاسم شهادتهم ; لأن خصامهم علم على شدة الحرص على إنفاذ شهادتهم والحكم بها وشدة الحرص قد تحمل على تحريفها أو زيادة فيها قال : شهادتهم تلزمه ; لأنه في أمور الآخرة وقد قدمنا أن العداوة في حق الله لا تؤثر في الشهادة وذكر مطرف الباجي في قول محمد لا تجوز شهادة خصم ولا ظنين ، من قام يطلب حق الله لم تقبل شهادته فيه قاله ابن القاسم في العتبية وقال : شهادته جائزة انتهى . مطرف قلت ونحوه لابن رشد وتقدم ذكر كلامه في ذكر الخصومة فجعل المازري المانع حرصه على القبول ، خلاف كونه الخصومة انتهى .
وقال ابن فرحون : في الفصل الثالث من القسم الرابع من الركن السادس من الباب الخامس من القسم الأول : من كانت عنده شهادة فلا يحل له أن يكتمها ويلزمه إذا دعي أن يقوم بها وإن لم يدع فهو على وجهين إما أن يكون حقا لله وإما أن يكون حقا لآدمي فالأول على قسمين ما لا يستدام فيه على التحريم وما يستدام فيه فالأول كالزنا والشرب وشبهه فلا يضر ترك إخباره بالشهادة [ ص: 164 ] لأن ذلك ستر عليه وأشار ابن رشد إلى أن هذا في حق من يندر منه وأما من كثر منه فينبغي أن يشهد عليه وإن علم الإمام بذلك فقد قال ابن القاسم في المجموعة : يكتمونه الشهادة ولا يشهدوا بذلك إلا في تجريح إن شهد على أحد ( والثاني ) كالعتق والطلاق والخلع والرضاع والعفو عن القصاص وتملك الأحباس والقناطر وشبهه فيلزمه أن يخبر بشهادته ويقوم بها عند الحاكم ، فإن لم يخبر بشهادته سقطت ; لأن سكوته عن ذلك جرحة إلا أن يثبت أن لهم عذرا في عدم القيام . قال ابن عبد السلام وظاهر كلام ابن رشد اختلف في تجريح الشاهد بذلك واختلف في بطلان شهادته بالسكوت فإن كان المنكر هو القائم عليه وهو القائم بالشهادة فاختلف هل تقبل شهادته أم لا ؟ وذهب ابن القاسم إلى أنه لا تجوز شهادته إذا كان هو القائم بها ، وذهب مطرف وابن الماجشون وأصبغ إلى أن شهادته جائزة وكذلك الحكم لو كانوا جماعة هم القائمون عليه وهم الشهود انتهى .
وقال بعده تنبيه يستثنى من ذلك مسألة صاحب الشرطة وذكر مسألة البيان المتقدمة وحاصل ما تقدم أن ما حكاه ابن رشد عن بعض المتأخرين الذي هو ظاهر كلام المؤلف هو ظاهر إطلاقات أهل المذهب ولا شك في ظهور الفرق بين وجوب رفع الشهادة وسقوطها بكون الشاهد هو المدعي ، فرفع الشهادة عند الحاكم والإخبار بها من غير مخاصمة فيما يستدام فيه التحريم واجب غير مسقط للشهادة كما سيصرح به المصنف بقوله وفي محض حق الله تعالى تجب المبادرة بالإمكان إن استديم تحريمه ، وأما إن كان الرافع هو المخاصم فتسقط الشهادة كما أطلقه هنا في قوله : كمخاصمة مشهود عليه مطلقا والله أعلم . وانظر الشفاء في الشهادة بشيء في حق الجناب العلي .
( فرع ) قال في الطرر في ترجمة عداوة لم تجز شهادتهم عليه ; لأنهم خصماؤه فإن قام عليه منهم قائم وشهد غيره جازت شهادتهم ; لأنهم ليسوا خصماء انتهى . : إذا قام أهل مسجد في حباسة مسجدهم أو حقه على رجل وشهدوا فيه وأنكر الرجل
( فائدة ) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { } رواه من ستر مسلما ستره الله يوم القيامة في كتاب البر والصلة قال في الإكمال : وهذا الستر في غير المشتهرين وأما المتكشفون المشتهرون الذين تقدم إليهم في الستر وستروا غير مرة فلم يدعوا وتمادوا فكشف أمرهم وقمع شرهم مما يجب ; لأن كثرة الستر عليهم من المهاودة على معاصي الله ومصانعة أهلها ، وهذا أيضا في ستر كشف معصية انقضت وفاتت فأما إذا عرف انفراد رجل بعمل معصية أو اجتماعهم لذلك فليس الستر ههنا السكوت على ذلك وتركهم وإياها بل يتعين على من عرف ذلك إذا أمكنه تنفيرهم عن ذلك بكل حال وتغييره وإن لم يتفق له ذلك إلا بكشفه لمن يعينه أو السلطان ، وأما إيضاح حال من يضطر إلى كشفه من الشهود والأمناء والمحدثين فبيان حالهم ممن يقبل منه وينتفع به مما يجب على أهله ، فأما الشاهد فعند طلب ذلك منه لتجريحه أو إذا رأى حكما يقطع بشهادته وقد علم منه ما يسقطها فيجب رفعها ، وأما في أصحاب الحديث وحملة العلم المقلدين فيجب كشف أحوالهم السيئة لمن عرفها ممن يقلد في ذلك ويلتفت إلى قوله لئلا يغتر بهم ويقلد في دين الله من لا يجب ، على هذا اجتمع رأي الأئمة قديما وحديثا وليس الستر ههنا بمرغب فيه ولا مباح وليس في الحديث ما يدل على الإثم في كشفه ورفعه إلى السلطان وإنما فيه الترغيب على ستره ولا خلاف أن رفعه له وكشفه لمعصية الله مباح له غير مكروه ولا ممنوع إن كانت له نية من أجل عصيانه لله ولم يقصد كشف ستره والانتقام منه مجردا فهذا يكره له ا هـ والظاهر أنه يحرم بهذا القصد لقوله تعالى { مسلم إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم } والظاهر أيضا أن الستر إذا خلا عن القيود التي ذكرها أولا يكون مندوبا إليه للحديث [ ص: 165 ] المتقدم وأنه يكره الرفع والله أعلم