ش : يعني أن الحج يصح بالمال الحرام ولكنه عاص في تصرفه في المال الحرام ، قال سند : إذا ضمنه وأجزأه حجه وهو قول الجمهور انتهى ، ونقله غصب مالا وحج به القرافي وغيره ، نعم من فحجه غير مقبول كما صرح به غير واحد من العلماء كما ستقف عليه إن شاء الله ، وذلك لفقدان شرط القبول لقوله تعالى { حج بمال حرام : إنما يتقبل الله من المتقين } ، ولا منافاة بين الحكم بالصحة وعدم القبول ; لأن أثر القبول في ترتب الثواب ، وأثر الصحة في سقوط الطلب والله أعلم .
وقوله : الحرام يشمل جميع أنواعه الغصب والتعدي والسرقة والنهب وغير ذلك ، وإنما قال : صح ولم يقل : سقط ليشمل كلامه النفل والفرض ، فإن الحكم بالصحة يشملهما والسقوط خاص بالفرض وجاز اجتماع الصحة والعصيان لانفكاك الجهة ; لأن الحج أفعال بدنية وإنما يطلب المال ليتوصل به إليه فإذا فعله لم يقدح فيه ما تقدمه من التوصل إليه كمن خرج مغررا بنفسه راكبا للمخاوف وحج فإنه يجزئه وهذا قول وهو مذهب الجمهور ، وقال مالك : لا يجزئه لأنه سبب غير مشروع وهو جار على أصله في الصلاة في الدار المغصوبة ، وذكر ابن حنبل ابن فرحون في منسكه رواية عن بعدم الإجزاء كقول الإمام مالك وسيأتي كلامه ، ونقل سيدي الشيخ أحمد أحمد زروق في شرح هذا المحل من المختصر عن ابن العربي رواية ببطلان الصلاة في ذلك كمذهب الإمام ، وظاهر كلامه أن الرواية المذكورة في المذهب ، وقال أحمد التادلي بعد أن ذكر كلام سند المتقدم عن القرافي في شرح الرسالة لعبد الصادق ونقله من كتاب جمل من أصول العلم لابن رشد قال : وسألته عمن حج بمال حرام أترى أن ذلك مجزئ ويغرم المال لأصحابه ؟ قال : أما في مذهبنا فلا يجزئه ذلك وأما في قول فذلك جائز ويرد المال ويطيب له حجه ، وقول الشافعي هذا أقرب إلى مذهب الشافعي انتهى . مالك بن أنس
ونقله ابن فرحون في مناسكه وقال : قلت : ورأيت في بعض الكتب لم يحضرني الآن عن عدم الإجزاء وأنه وقف في مالك المسجد الحرام ونادى أيها الناس من عرفني فقد عرفني ومن لا يعرفني فأنا من حج بمال حرام فليس له حج أو كلام هذا معناه انتهى ، فظاهر هذه الرواية عدم الإجزاء كقول الإمام مالك بن أنس ، وحملها على عدم القبول بعيد وفي مناسك أحمد ابن معلى قال العلماء : يجب على مريد الحج أن يحرص أن تكون نفقته حلالا لا شبهة فيها لقوله تعالى { وتزودوا } الآية ، وقوله { إنما يتقبل الله من المتقين } { ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون } ولقوله عليه السلام { } الحديث المشهور في إن الله - تعالى - طيب لا يقبل إلا الطيب قال مسلم في شرح هذا الحديث : قوله صلى الله عليه وسلم يطيل السفر أشعث أغبر يفيد أنه سفر الحج ; لأن الصفتين المذكورتين غالبا لا يكونان إلا فيه قالوا : فلو حج بمال حرام فحجه صحيح عند القرطبي مالك والشافعي ، وقال وأبي حنيفة : لا يجزئه وحجه باطل . ابن حنبل
( تنبيه ) قال بعض الفضلاء : المنفق من غير حل في حجه جدير بعدم القبول وإن سقط الفرض كما قاله الأئمة الثلاثة ، قال بعض المحققين من العلماء المتقدمين : أما عدم القبول فلاقتران العمل بالمعصية وفقدان الشرط وهو التقوى ، قال الله - تعالى - { إنما يتقبل الله من المتقين } . وأما صحة عبادة في نفسها فلوجود شروطها وأركانها ، قال : ولا تناقض في ذلك لأن أثر عدم القبول يظهر في سقوط الثواب والعياذ بالله ، وأثر الصحة يظهر في سقوط الفرض عنه وإبراء الذمة منه .
( ( قلت ) ) : وقد أشار جماعة من العلماء إلى عدم القبول منهم القشيري والغزالي والقرافي [ ص: 529 ] والقرطبي والنووي ونقله الغزالي عن وكفى به حجة ، وقال في آخر كلامه : آكل الحرام مطرود محروم لا يوفق لعبادة وإن اتفق له فعل خير فهو مردود عليه غير مقبول منه ، وذكر ابن عباس في شرح القرطبي أن مسلم رضي الله عنه شرب جرعة من لبن فيه شبهة وهو لا يعلم ثم لما علم استقاءها فأجهده ذلك فقيل له : أكل ذلك في شربة لبن فقال : والله لو لم تخرج إلا بنفسي لأخرجتها ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول { الصديق } . : كل لحم نبت من سحت فالنار أولى به
( ( قلت ) ) : وإذا كانت الحال هذه فسبيل المرء أن يتقي الله في سره وعلانيته ويحافظ على شروط قبول عبادته ، وقد قال بعض العلماء : إن إعمال الجوارح في الطاعات مع إهمال شروطها ضحكة للشيطان لكثرة التعب وعدم النفع ، وقد روي { } انتهى ، وهذا الحديث ذكره من حج من غير حل فقال : لبيك ، قال الله له : لا لبيك ولا سعديك ابن جماعة في منسكه الكبير بروايات مختلفة ، قال : روي عن سيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال { البيت بكسب حرام شخص في غير طاعة الله فإذا بعث راحلته فقال : لبيك اللهم لبيك ، ناداه مناد من السماء : لا لبيك ولا سعديك كسبك حرام وراحلتك حرام وثيابك حرام وزادك حرام ارجع مأزورا غير مأجور وأبشر بما يسوءك ، وإذا خرج الرجل حاجا بمال حلال وبعث راحلته ، وقال : لبيك اللهم لبيك ، ناداه مناد من السماء : لبيك وسعديك أجبت بما تحب راحلتك حلال وثيابك حلال وزادك حلال ارجع مبرورا غير مأزور واستأنف العمل } ، أخرج هذه الرواية الأخيرة : إذا حج الرجل بالمال الحرام فقال : لبيك اللهم لبيك ، قال الله - تعالى - : لا لبيك ولا سعديك حتى ترد ما في يديك وفي رواية : لا لبيك ولا سعديك وحجك مردود عليك وفي رواية من خرج يؤم هذا 1584 أبو ذر وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال { رد دانق من حرام يعدل عند الله سبعين حجة } وأنشدوا
إذا حججت بمال أصله سحت فما حججت ولكن حجت العير
لا يقبل الله إلا كل طيبة ما كل من حج بيت الله مبرور
والروايتان الأوليان أخرجهما الحافظ أبو الفرج في مثير الغرام إلى زيارة البيت الحرام قال ولكن بلفظ بمال من غير حله في الرواية الأولى وبلفظ هذا مردود عليك في الثانية وقوله : يؤم أي يقصد ، وقوله : شخص شخوص المسافر خروجه من منزله ، والسحت بضم الحاء وإسكانها قال في القاموس : الحرام وما خبث من المكاسب وقد نظم الشيخ أبو عبد الله محمد بن رشيد البغدادي في قصيدته التي في المناسك المسماة بالذهبية معنى هذا الحديث فقال
: وحج بمال من حلال عرفته وإياك والمال الحرام وإياه
فمن كان بالمال المحرم حجه فعن حجه والله ما كان أغناه
إذا هو لبى الله كان جوابه من الله لا لبيك حج رددناه
كذاك روينا في الحديث مسطرا وما جاء في كتب الحديث سطرناه
وقال النووي : فإن حج بمال حرام أو بشبهة فحجه صحيح ولكنه ليس بمبرور انتهى ، واعترض عليه بأن المبرور هو الذي لا يخالطه مأثم ومن وقع في الشبهات لم يتحقق وقوعه في الإثم وقد حمل العلماء قوله صلى الله عليه وسلم : ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام على وجهين قال الفاكهاني في شرح عمدة الأحكام أحدهما أن من تعاطى الشبهات وداوم أفضت به إلى الوقوع في الحرام ، والثاني أن من تعاطى الشبهات وقع في الحرام في نفس الأمر وإن كان لا يشعر بها فمنع من تعاطى الشبهات لذلك انتهى . ونحوه في شرح الأربعين فمن تعاطى ما فيه شبهة لا يحرم فإنه آثم إلا على القول بأن الشبهات حرام وقيل : إنها حلال وصوب في المفهم القول بالكراهة انتهى من شرح الأربعين القرطبي للفاكهاني ولأنهم عدوا من الشبهات ما اختلف فيه العلماء كما صرح به الفاكهاني والزناتي وغيرهم وابن ناجي ومن ارتكب ما اختلف فيه العلماء لا نقول فيه إثم فكان الأولى أن يقول فإن حج بشبهة خيف عليه أن لا يكون حجه مبرورا وقد اختلف العلماء في الحلال هل هو ما علم أصله أو ما جهل أصله : ورجح جماعة كثيرون الثاني منهم الشيخ الفاكهاني وأبو علي الجبائي ذكره في شرح الأربعين ولا سيما في هذا الزمان والله أعلم .
وقال المصنف في منسكه ثم ينظر في أمر الزاد وما ينفقه فيكون من أطيب جهة لأن الحلال يعين على الطاعة ويكسل عن المعصية وكان السلف رضي الله عنهم يتركون سبعين بابا من الحلال مخافة الوقوع في الحرام هذا وهم متلبسون بغير الحج فما بالك بالحج انتهى ، وقد قال صلى الله عليه وسلم { من أكل الحلال أطاع الله شاء أو أبى ومن أكل الحرام عصى الله شاء أو أبى } ذكره في المدخل وقال عليه السلام { : طلب الحلال فريضة } وقال عليه السلام { من أمسى وانيا من طلب الحلال بات مغفورا له } وقوله وانيا من قولهم ونى إذا تعب وعن رضي الله عنها { عائشة أنها قالت : يا رسول الله من المؤمن قال الذي إذا أصبح سأل من أين قرصه وإذا أمسى سأل من أين قرصه ، قالت : يا رسول الله لو علم الناس لتكلفوه قال : قد علموا ذلك ولكنهم غشموا المعيشة غشما } أي تعسفوا تعسفا ، وقال ابن عبدوس عماد الدين وقوامه طيب المطعم فمن طاب كسبه زكا عمله ومن لم يصحح في طيب مكسبه خيف عليه أن لا تقبل صلاته وصيامه وحجه وجهاده وجميع عمله لأن الله - تعالى - يقول { إنما يتقبل الله من المتقين } انتهى