( السابع ) شمل قوله : " وأمن " على نفس الأمن من القتل والأسر ، والأمن على البضع ولا خلاف في اعتبار ذلك . وشمل قوله : " ومال الأمن " على المال من اللصوص جمع لص مثلث الأول وهو في الأصل السارق لكن المراد به هنا والله أعلم المحارب الذي لا يندفع إلا بالقتال لقوله في التوضيح : لا يشك في اعتبار الأمن على النفس ، وأما المال فإن كان من لصوص فكذلك ; لأنه مؤد إلى ضياع النفس من غير فائدة انتهى .
وقد يطلق اللص على المحارب ، وأما السارق الذي يندفع بالحراسة فلا يسقط به الحج وهو ظاهر ، وشمل أيضا كلامه الأمن على المال من المكاس وهو الذي يأخذ من أموال الناس شيئا مرتبا في الغالب ، وأصل المكس في اللغة النقص والظلم ويقال له العشار ; لأنه يأخذ العشور في كثير من البلاد ، ومنه الرصدي الذي يرقب الناس على المراصد ليأخذ منهم مالا وهو بفتح الراء مع فتح الصاد وإسكانها قاله الشيخ زكريا في شرح الروض ولما كان ما يأخذه المكاس فيه تفصيل نبه على ذلك بقوله بما سيأتي ، وما ذكرناه من اعتبار الأمن على المال من اللصوص هو المعروف وحكى المصنف في التوضيح عن أبي محمد عبد الصادق في شرح الرسالة أنه قال : قال فيمن مالك : هو عذر بين ثم رجع بعد ما أفتى به زمانا ، فقال : لا ينجي حذر من قدر ، ويجب عليه الحج قال لا يستطيع الحج من اللصوص ابن المواز : لم يقل ذلك إلا في مالك مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأما غيرها من الأمصار فهو مخير إن شاء أجاب وإن شاء ترك وانظر ما وجه التفريق بين المدونة وغيرها ، وقال في الشامل : وعلى المال من لصوص على المشهور انتهى .
وكأن مقابل المشهور عنده ما نقله أبو محمد عبد الصادق وأبو محمد عبد الصادق نقله عن ابن رشد في كتاب جمل من أصول العلم وذكر ابن فرحون كلام عبد الصادق وجعله مسألة مستقلة فيوهم كلامه أنه المذهب ، وليس كذلك بل تحصيل المذهب ما ذكره التادلي عن القرافي من التفصيل بين أن يأخذ ما لا يتحدد أو يتحدد ويجحف فلا يجب ، وبين أن يأخذ ما لا يجحف [ ص: 495 ] ففي ذلك قولان كما سيأتي بيانه في القولة التي بعد هذه والله أعلم .
ص ( إلا لأخذ ظالم ما قل لا ينكث على الأظهر )
ش : لما ذكر أنه يعتبر الأمن على المال استثني من ذلك ما إذا كان عدم الأمن عليه إنما هو ; لأن في الطريق مكاسا يأخذ من المال شيئا قليلا ولا ينكث بعد أخذه لذلك القليل ، فذكر أن في ذلك قولين : أظهرهما عدم سقوط الحج ، والثاني سقوطه . قال في التوضيح : إن كان ما يأخذه المكاس غير معين أو معينا مجحفا سقط الوجوب وفي غير المجحف قولان : أظهرهما عدم السقوط وهو قول الأبهري ، واختاره ابن العربي وغيره والآخر حكاه ابن القصار عن بعض الأصحاب انتهى .
( تنبيهات الأول ) ظاهر كلامه في التوضيح أنه سقط الحج من غير خلاف ، وظاهر ما نقله إذا كان المكاس يأخذ ما يجحف التادلي عن ابن العربي أنه يختار عدم السقوط سواء طلب ما يجحف أم لا يجحف خلاف ما نقله عنه في التوضيح ونصه قال صاحب السراج : فإن مكة مالا فقال بعض الناس : لا يدخل ولا يعطيه وليرجع ، والذي أراه أن يعطيه ، ولا ينبغي أن يدخل في ذلك خلاف فإن الرجل بإجماع الأمة يجوز له أن يمنع عرضه ممن يهتكه بماله ، وقالوا : كل ما وقى به المرء عرضه فهو صدقة ، فكذلك ينبغي أن يشتري دينه ممن يمنعه إياه ولو أن ظالما قال لرجل لا أمكنك من الوضوء والصلاة إلا بجعل لوجب عليه أن يعطيه إياه انتهى . طلب منه الظالم في طريق أو في دخول
وصاحب السراج هو ابن العربي فظاهر كلامه هذا أنه لم يفرق بين ما يجحف وما لا يجحف ، كما نقله صاحب التوضيح وفي كلام ابن عبد السلام ميل إلى هذا فإنه قال : وتقدم أنه لا يعتبر ببقائه فقيرا وأنه يبيع عروضه ، وأنه يترك ولده للصدقة وذلك يقتضي أنه لا يراعى ما يجحف فضلا عما لا يجحف ، قال المصنف في التوضيح بعد نقله كلام ابن عبد السلام وقد يفرق بأن في الإعطاء هنا إعانة للظالم على ظلمه وبغيه انتهى .
( ( قلت ) ) ويمكن أن يفرق بأن تلك الأمور لا بد منها ولا يمكنه الوصول إلا بها بخلاف هذه فتأمله والله أعلم .
( الثاني ) ظاهر كلام المصنف هنا أن محل الخلاف إذا كان المأخوذ قليلا وأما إن كان المكاس يطلب الكثير فإنه يسقط الحج ، ولو كان ذلك الكثير لا يجحف بالمأخوذ منه وهو ظاهر كلام اللخمي أو صريحه وظاهر كلام المصنف في توضيحه ومناسكه أن محل الخلاف ما لا يجحف ولو كان في نفسه كثيرا وهو ظاهر كلام القاضي عبد الوهاب والقرافي وغيرهما ، قال التادلي قال القرافي : يسقط فرض الحج إذا كان في الطريق عدو يطلب النفس أو من المال ما لا يتحدد أو يتحدد ويجحف وفي غير المجحف خلاف انتهى .
ولا شك في تغاير العبارتين ; لأن المجحف وغير المجحف يختلفان باختلاف الناس ، فرب شخص يجحف به الدينار وآخر لا يجحف به العشرة ، ولهذا قال ابن عرفة لا يسقط بعدم اليسير قال وظاهر قول القاضي : ولا بكثير ، لا يجحف انتهى .
( ( قلت ) ) واعتبار المجحف وغير المجحف هو ظاهر عبارة الأكثر وهو الظاهر ويمكن أن يقال : مراد المصنف بقوله : ما قل أن يكون المأخوذ قليلا بالنسبة إلى المأخوذ منه ولا يجحف به وإن كان كثيرا في نفسه فيتفق كلامه في كتبه الثلاثة ، وقال سند بعد أن ذكر كلام القاضي عبد الوهاب : والذي قاله حسن ، ونص كلامه إذا كان المنع إنما هو لمغرم فقال في المعونة : إذا كان يجحف لم يلزم فاعتبر ما تبلغ مضرته من ذلك إلى حد لا يحتمل وقال أصحاب أبي حنيفة : إذا لم يمكنه المسير إلا بدفع شيء من ماله لم يجب عليه ، وقاله من أصحابنا القاضي والشافعي أبو عبد الله البصري المعروف بعلعل والذي قاله القاضي يعني في المعونة حسن ، فلا يسقط عن الموسر بانتقاص دينار من ماله ، وضرر ذلك يحتمل انتهى .
وممن قال بسقوط الحج بغير المجحف فإنه أفتى جماعة مشوا معه للحج فطلب منهم أعرابي على كل جمل ثمن درهم بأن يرجعوا [ ص: 496 ] فرجعوا ذكره أبو عمران الفاسي الزناتي في شرح الرسالة ونقله ابن فرحون والتادلي وغيرهما والله أعلم .
( الثالث ) قيد المصنف هنا الوجوب بكون الظالم لا ينكث وأطلق ذلك في مناسكه ، وما قاله هنا هو المتعين ويحمل كلامه في مناسكه عليه ، وقد وقع ذلك في كلام القاضي عبد الوهاب وغيره واحترز بذلك مما إذا كان الظالم ينكث ، قال الشيخ زروق في شرح هذا المحل من المختصر : أو جهل فإنه لا يختلف في سقوط الحج ، وسيأتي في كلام البرزلي عن ابن رشد ما يدل على ما ذكره الشيخ زروق وقد علم من هذا أن قوله : " على الأظهر " راجع إلى قوله : " ما قل " لا إلى قوله : لا ينكث ، إذ لا خلاف في سقوط الحج إذا كان ينكث ولا يؤمن من غدره ونبه على ذلك ابن غازي ، ولو قدم قوله : لا ينكث ، على قوله : ما قل ; فقال : إلا لأخذ ظالم لا ينكث ما قل على الأظهر ; لكان أبين .
( الرابع ) قوله : " على الأظهر " يقتضي أن ابن رشد هو الذي استظهر هذا القول الذي رجحه ، وقال ابن غازي : لم أجده له في المقدمات ولا في البيان ولا في الأجوبة ولا عزاه له ابن عرفة ولا المصنف في توضيحه ولا في مناسكه ، وإنما قال في قول : وفي سقوطه بغير المجحف قولان ، أظهرهما عدم السقوط وهو قول ابن الحاجب الأبهري واختاره ابن العربي وغيره انتهى .
( ( قلت ) ) رأيت في أوائل مسائل الحج من البرزلي في جواب سؤال عزاه لابن رشد ذكر فيه قولين وصدر بالقول بعدم السقوط ما نصه والأول أولى : إن سأل يسيرا أو علم عدم غدره قياسا على عادم الماء يلزمه شراؤه إن كان يسيرا لا يجحف به ، وإن أجحف لم يلزمه شراؤه انتهى .
فلعل المصنف وقف على هذا الكلام فأشار إليه ، وقال ابن الفرس في أحكام القرآن : هو قول أكثر أصحاب ، قال : وهو الأظهر وتقدم أنه اختيار مالك ابن العربي وأن ابن عبد السلام مال إليه ، وتقدم عزو مقابله وممن قال به كما تقدم في الجماعة الذين أفتاهم بالرجوع لما طلب منهم ثمن دينار على كل جمل . أبو عمران