2085 - مسألة : اختلف الناس في هذا فقالت طائفة : العفو جائز لكل أحد ممن يرث ، وللزوجة ، والزوج ، وغيرهما ، فإن عفا أحد ممن ذكرنا فقد حرم القصاص ووجبت الدية لمن لم يعف . فيمن له العفو عن الدم ومن لا عفو له ؟
وقال آخرون : العفو للرجال خاصة دون النساء .
وقالت طائفة : من أراد القصاص فذلك له ، ولا يلتفت إلى من أراد الدية أو العفو ، ما لم يتفقوا على ذلك .
فالقول الأول - كما روينا من طريق نا سعيد بن منصور نا هشيم عن الأعمش أن زيد بن وهب فأجاز ذلك رجلا قتل امرأته ولها إخوة فعفا أحدهم ورفع عن القاتل نصيب الذي عفا وغرمه نصيب الذي لم يعف . عمر بن الخطاب
قال سعيد : ونا ، سفيان بن عيينة وأبو عوانة ، كلاهما عن عن الأعمش بمثله . [ ص: 122 ] زيد بن وهب
وروينا من طريق نا أبي بكر بن أبي شيبة نا وكيع عن الأعمش قال : زيد بن وهب فرفع إلى رأى رجل مع امرأته رجلا فقتلها ؟ ، فوهب بعض إخوتها نصيبه له ، فأمر عمر بن الخطاب سائرهم أن يأخذوا الدية . عمر
وعن إبراهيم النخعي في ، فرفع ذلك إلى رجل قتل رجلا متعمدا فعفا بعض الأولياء ؟ فقال عمر بن الخطاب : قل فيها ، فقال : أنت أحق أن تقول يا أمير المؤمنين ، فقال لعبد الله بن مسعود : إذا عفا بعض الأولياء فلا قود ، يحط عنه بحصة الذي عفا ولهم بقية الدية ، فقال عبد الله : ذلك الرأي ، وافقت ما في نفسي . عمر
ومن طريق عن عبد الرزاق عن معمر عن الأعمش أن زيد بن وهب رفع إليه عمر بن الخطاب ، فقال رجل قتل رجلا ، فجاء أولياء المقتول ، فأرادوا قتله ، فقالت أخت المقتول - وهي امرأة القاتل : قد عفوت عن حصتي من زوجي : عتق الرجل من القتل . عمر
وعن قال : عفو كل ذي سهم جائز . إبراهيم
وعن قال : قال ابن جريج في عطاء : فإنه يعطى الذي لم يعف شطر الدية . رجل قتل رجلا عمدا فعفا أحد بني المقتول ، وأبى الآخر
وعن - إذا عفا أحد الأولياء فإنما تكون دية ، ويسقط عن القاتل بقدر حصة الذي عفا . قتادة
وعن إذا عفا أحدهم فالدية . عمر بن عبد العزيز
وأما القول الثاني - فكما روينا من طريق عن عبد الرزاق عن معمر الزهري قال : العفو إلى الأولياء ، ليس للمرأة عفو .
ومن طريق نا أبي بكر بن أبي شيبة أبو خالد عن أشعث عن الزهري قال : صاحب الدم أولى بالعفو .
وعن : لا عفو للنساء ، فإذا كانت الدية فلها نصيبها . قتادة
وعن : ليس للنساء عفو . الحسن البصري
وعن ، لا عفو للمرأة في العمد . [ ص: 123 ] عمر بن عبد العزيز
وعن : ليس للزوج ولا للمرأة عفو . إبراهيم النخعي
وعن الزهري ، وربيعة ، ، قال وأبي الزناد : ليس للأم عفو ، والولي ولي حيث كان ، والبنت تعفو مع ولاة الدم ، ولا تعفو الولاة دونها . ربيعة
وقال الزهري : وليه أولى بذلك .
وقال : أما العفو فلولي المقتول إن شاء قتل وإن شاء عفا . أبو الزناد
أما المتأخرون - فإن ، أبا حنيفة ، وسفيان الثوري ، والحسن بن حي والأوزاعي ، ، قالوا بما روي عن والشافعي ، عمر بن الخطاب : أن لكل وارث عفوا ولا يقتل إلا باجتماعهم على قتله . وابن مسعود
وقال ، ابن شبرمة : ليس للنساء عفو . والليث
وقال : لكل وارث عفو إلا الزوج والزوجة فلا عفو لهما . ابن أبي ليلى
قال : الأمر المجتمع عليه عندنا في الرجل يقتل عمدا وليس له ولاة إلا النساء والعصبة فأرادا أن يعفوا عن الدم ، وأبى بنات المقتول فإنه لا عفو للعصبة ، يقتل به قاتله . مالك
فإن أراد بنات المقتول أن يعفون وأبى العصبة فلا عفو للبنات ، والقول ما قال العصبة ، ويقتل القاتل إذا لم يجتمع على العفو .
وكذلك إن كانت له ابنة واحدة فأرادت القتل وعفا العصبة فيقتل ولا عفو للعصبة .
ورأي : إذا كان للمقتول ابن وابنة : أنه لا عفو للابنة مع الابن ، ولكن إن عفا الابن جاز على الابنة .
ورأي : عفو الأقرب فالأقرب من العصبة جائز على الأبعد منهم .
قال : فلما اختلفوا كما ذكرنا وجب أن ننظر فيما احتجت به كل طائفة لقولها لنعلم الحق من ذلك : فنظرنا فيما قالت به الطائفة القائلة بأن عفو كل ذي سهم جائز ، فوجدناهم [ ص: 124 ] يقولون بقول الله تعالى { أبو محمد وأن تعفوا أقرب للتقوى ولا تنسوا الفضل بينكم } فلما كان العفو أقرب للتقوى وجب أن من دعى إلى من هو أقرب للتقوى كان قوله أولى .
وذكروا في ذلك ما روي عن أنه قال : ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم رفع إليه شيء فيه قصاص إلا أمر بالعفو ؟ قالوا : فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر في كل قصاص رفع إليه بالعفو ، فوجب أن يكون العفو مغلبا على القود . أنس بن مالك
وهذا أيضا حكم قد جاء عن ، عمر بحضرة الصحابة - رضي الله عنهم - ولا يعرف لهما مخالف . وابن مسعود
فهذا كل ما احتجوا به ، ما نعرف لهم شيئا غيره أصلا .
ثم نظرنا في قول من قال : العفو لجميع الورثة إلا الزوج والزوجة فلم نجد لهم شبهة إلا أن يقولوا ليسا من العصبة ، ولا يعقلان مع العاقلة .
ونظرنا في قول من قال : العفو للرجال خاصة دون النساء ، فلم نجد لهم شبهة أصلا ، إلا أن يقولوا : إنهن لا يرثن الولاء ، ولا الولاية في الإنكاح فكذلك لا عفو لهن ؟ وأما من قال بالفرق بين الزوجين وبين سائر الورثة من أجل أن الزوجين ليسا من العصبة ، فقول في غاية الفساد .
ومن أين خرج لهم أن هذا الأمر للعصبة ، وهذا حكم ما جاء به من عند الله تعالى أمر ، ولا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو باطل .
وأما أنهما لا يعقلان مع العاقلة ؟ فنعم ، فكان ماذا ؟ وما الذي أدخل حكم العاقلة في حكم العفو من الدم ؟ والعاقلة إنما هي في القتل في الخطأ خاصة والعفو إنما هو في العمد خاصة ، فما الذي جمع بين حكم العمد والخطأ ؟ ثم نظرنا في قول من رأى العفو للرجال دون النساء ، فوجدناه أيضا فاسدا ، لأنه قياس ، والقياس كله باطل . [ ص: 125 ]
ثم نظرنا في قول - فوجدناه في غاية التناقض بلا دليل أصلا ، لأنه مرة غلب من دعا إلى القتل ، وذلك في الابنة مع العصبة " فرأى : إن دعا العصبة إلى القتل وعفت الابنة أن القول قول العصبة - واحتج بأنها قد يدخلها زوجها إلى العفو ، وأمرها إلى الضعف ، وإن عفا العصبة ودعت الابنة إلى القتل فالقول قول الابنة - واحتج بأنها المصابة بأبيها ؟ فمرة راعى ضعفها ، وإدخال زوجها لها إلى العفو ، ولم يراع مصيبتها ؟ ومرة غلب من دعا إلى العفو ، وذلك في البنين يعفو أحدهم دون الآخرين ومرة غلب الرجال على النساء وذلك في البنات مع الابن ؟ وهذه أقوال ظاهرة التناقض يهدم بعضها بعضا ، لا حجة لشيء منها ، لا في قرآن ولا سنة صحيحة ، ولا سقيمة ، ولا قياس ، ولا في إجماع ، ولا في قول صاحب - فكان هذا القول أسقط من سائر الأقوال . مالك
ثم نظرنا في حجة من أجاز عفو كل وارث وغلبه ، فوجدناهم يقولون : قال الله تعالى { وأن تعفوا أقرب للتقوى } ، وقال تعالى { ولكم في القصاص حياة } فأعلى ما يريده أهل هذا القول أن يكون العفو أعظم أجرا ، والقصاص - بلا شك مباح - وإذا كان كلاهما مباحا فلا يجوز بلا خلاف أن يجبر على الأفضل من لا يريده غير راغب - فبطل أن يكون في هذه الآية دليل على سقوط حق من أراد القصاص إذا عفا أحد الورثة .
وهكذا القول في حديث إن صح أنه { أنس } لأنه لم يختلف اثنان من الأمة في أنه إن صح فإنه أمر ندب لا أمر إلزام ، فإذ ذلك كذلك فلا خلاف في أنه لا يجوز أن يجبر على الأفضل من لا يريده غير راغب عنه - إذا أراد ما أبيح له - فبطل أن يكون لهم في هذا الخبر تعلق . لم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم قط رفع إليه شيء فيه قصاص إلا أمر فيه بالعفو -
قال : فلما سقطت هذه الأقوال كلها وتعرت من الأدلة وجب علينا إذ [ ص: 126 ] تنازعوا أن نرجع إلى ما افترض الله تعالى علينا الرجوع إليه عند التنازع إذ يقول تعالى { أبو محمد فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول } الآية ، ففعلنا ؟ فوجدنا الله تعالى قد قال { ولكم في القصاص حياة } ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم { } فجعل الله تعالى القصاص حقا ، وجعل رسول الله - عليه الصلاة والسلام - أهل القتيل بين خيرتين - إما أخذ العقل ، وإما القتل ، فساوى بين الأمرين أيهما شاءوا ؟ من قتل له قتيل فأهله بين خيرتين بين أن يأخذوا العقل وبين أن يقتلوا
وكما روينا من طريق نا مسلم أنا إسحاق بن منصور بشر بن عمر - هو الزهراني - سمعت يقول : حدثني مالك بن أنس أبو ليلى بن عبد الله بن عبد الرحمن بن سهل بن أبي حثمة : أنه أخبره عن رجال من كبراء قومه : { عبد الله بن سهل ، ومحيصة خرجا إلى خيبر من جهد أصابهما فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم محيصة وأخبر : أن عبد الله بن سهل قتل وطرح في عين أو فقير فأتى يهود فقال : أنتم والله قتلتموه ، قالوا : والله ما قتلناه ، ثم أقبل حتى قدم على قومه فذكر لهم ذلك ، ثم أقبل هو وأخوه محيصة - وهو أكبر منه - وعبد الرحمن بن سهل ، فذهب محيصة ليتكلم - وهو الذي كان بخيبر - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الكبر ، الكبر ، إما أن يدوا صاحبكم ، وإما أن يؤذنوا بحرب ، فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم في ذلك ، فكتبوا : إنا والله ما قتلناه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم ؟ قالوا : لا } . أن
وذكر الحديث وبه : إلى حدثني مسلم عبيد الله بن عمر القواريري نا نا حماد بن زيد يحيى بن سعيد عن عن بشير بن يسار سهل بن أبي حثمة ، { ورافع بن خديج محيصة بن مسعود ، وعبد الله بن سهل انطلقا قبل خيبر فتفرقا في النخل ، فقتل عبد الله بن سهل ، فاتهموا اليهود ، فجاء أخوه عبد الرحمن ، وابنا عمه حويصة ، ومحيصة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتكلم عبد الرحمن في أمر أخيه - وهو أصغر منهم - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كبر ، الكبر ، أو قال : ليبدأ الأكبر ؟ فتكلما في أمر صاحبهما ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم خمسون منكم على رجل عنهم فيدفع برمته ؟ فقالوا : أمر لم نشهده كيف نحلف ؟ } وذكر باقي الخبر . [ ص: 127 ] أن
ففي هذا الخبر الثابت - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل الحق في طلب الدم لابن العم [ لسنه ] كما جعله للأخ للأب الوارث دون ابن العم ، وأنه عليه الصلاة والسلام بدأ ابن العم لسنه - فبطل بهذا قول من راعى أن الحق للأقرب فالأقرب ، أو للوارث دون غيره .
وصح أن الحق " للأهل " كما جاء في القرآن ، والسنة الصحيحة ، وابن العم من " الأهل " بلا شك في لغة العرب - وهذا هو الإجماع الصحيح ، لأنه كان بعلم الصحابة بالمدينة ، إذ قتل مثل عبد الله بن سهل ، وقيام بني حارثة في طلب دمه لا يمكن استتار مثله عن أحد من قومه ، وعن المهاجرين ، فإذا الحق للجميع سواء ، فمن الباطل أن يغلب أحدهم على الآخرين منهم إلا بنص ، أو إجماع - ولا نص ، ولا إجماع في ذلك .
ثم نظرنا إذا عفا أحد " الأهل " ولم يعف غيره منهم بعد صحة الاتفاق من إجماع الأمة على أنهم كلهم إن اتفقوا على القود نفذ ، وإن اتفقوا على العفو نفذ - وقيام البرهان على أنهم إن اتفقوا على الدية أو المفاداة نفذ ذلك فوجدنا القود والدية قد ورد التخيير فيهما ورودا واحدا ليس أحدهما مقدما على الآخر ، فلم يجز أن يغلب عفو العافي [ على إرادة من أراد القصاص على عفو العافي ] إلا بنص " أو إجماع - ولا نص ، ولا إجماع في تغليب العافي - فنظرنا في ذلك فوجدنا الله تعالى يقول : { ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى } فوجب بهذه الآية أن لا يجوز عفو العافي عمن لم يعف .
ووجدنا القاتل قد حل دمه بنفس القتل : كما حدثنا عبد الله بن ربيع نا عمر بن عبد الملك نا محمد بن بكر نا أبو داود سليمان بن حرب نا عن حماد بن زيد عن يحيى بن سعيد الأنصاري قال : كنا مع أبي أمامة بن سهل بن حنيف رضي الله عنه - وهو محصور - فخرج إلينا وهو متغير لونه فقال : يتواعدوني بالقتل آنفا ، وبم يقتلونني ؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { عثمان بن عفان } فوالله ما زنيت في جاهلية ولا إسلام قط ، ولا أحببت أن لي بديني بدلا مذ هداني الله تعالى ، ولا قتلت نفسا " . لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : رجل كفر بعد إسلامه ، أو [ ص: 128 ] زنا بعد إحصان ، أو قتل نفسا بغير نفس ، فيقتل -
قال : فصح بقول النبي صلى الله عليه وسلم أن من قتل نفسا خرج دمه من التحريم إلى التحليل بنفس قتله من قتل ، فإذ صح هذا فالقاتل متيقن تحليل دمه والداعي إلى أخذ القود داع إلى ما قد صح بيقين وذلك له ، والعافي مريد تحريم دم قد صح تحليله بيقين فليس له ذلك ، إلا بنص ، أو إجماع ، ومريد أخذ الدية دون من معه مريد إباحة أخذ مال ، والأموال محرمة بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم { أبو محمد } والنص قد جاء بإباحة دم القاتل ، كما قلنا بيقين قتله ، ولم يأت نص بإباحة الدية إلا بأخذ " الأهل " لها ، وهذا لفظ يقتضي إجماعهم على أخذها فالدية ما لم يجمع " الأهل " على أخذها ، إذ لم يبحها نص ، ولا إجماع - فبطل بيقين . إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام
وصح أن من دعا إلى القود فهو له - وهو قول في البنات مع العصبة ، إلا أنه ناقض في ذلك مع البنين والبنات ، وفي بعض البنين مع بعض . مالك
قال : والذي نقول به أن كل ذلك سواء وأن الحكم للأهل وهم الذين يعرف المقتول بالانتماء إليهم ، كما كان يعرف أبو محمد عبد الله بن سهل بالانتماء إلى بني حارثة وهم الذين أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بأن يقسم منهم خمسون ويستحقون القود أو الدية ، وأن من أراد منهم القود سواء كان ولدا أو ابن عم [ أو ابنة ] أو أختا ، أو غير ذلك من أم ، أو زوج ، أو زوجة ، أو بنت عم ، أو عمة - فالقود واجب ، ولا يلتفت إلى عفو من عفا ممن هو أقرب ، أو أبعد ، أو أكثر في العدد لما ذكرنا .
فإن اتفق الورثة كلهم على العفو فلهم الدية حينئذ ويحرم الدم ، فإن أراد أحد الورثة العفو عن الدية فله ذلك ، في حصته خاصة ، إذ هو مال من ماله - وبالله تعالى التوفيق .