3-مفهوم حرية الرأي، ومنزلتها في التصور الإسلامي
تستخدم العرب ( الرأي ) في الدلالة على ما يعتقده الإنسان ويراه -بعد البحث والنظر- في أمر من الأمور
[1]
، وقد ذكر ابن القيم أن " الرأي في الأصل مصدر رأى الشيء يراه رأيا، ثم غلب استعماله على المرئي نفسه، من باب استعمال المصدر في المفعول.. والعرب تفرق بين مصادر فعل الرؤية بحسب محالها فتقول: رأى كذا في النوم رؤيا، ورآه في اليقظة رؤية، ورأى كذا -لما يعلم بالقلب ولايرى بالعين- رأيا " ثم ذكر أن ( الرأي) بهذا المعنى -ما يعتقده الإنسان ويراه- لا يسمى رأيا إلا بشرطين:
أولهما: أن يكون ذلك ( الرأي ) بعد فكرة وتأمل وطلب لمعرفة وجه الصواب، مما تتعارض فيه الأمارات ( أي: أوجه دلالته على الأشياء وحقائقها ) فلا يقال لمن رأى بقلبه أمرا غائبا عنه مما يحس به أنه رأيه.
ثانيهما: أن يكون ( الرأي ) فيما تتعارض فيه وجهات النظر، وتختلف في إدراكه العقول، فلا يقال للأمر المعقول الذي لا تختلف فيه العقول، ولا تتعارض فيه الأمارات: إنه رأي، وإن احتاج إلى فكر وتأمل كدقائق الحساب ونحوها
[2] [ ص: 79 ] هذا، ومصطلح ( حرية الرأي ) يطلق ويراد به أحد معنيين
[3] :
- حرية الإنسان في طرق الفكر والنظر، واستقلاله الفكري، دون أن تفرض عليه من الآخرين معطيات وأدوات أو قناعات من شأنها أن تقيده، أو تلزمه بسلوك طرائق معينة من شأنها أن توصله إلى نتيجة مبتغاة سلفا، حقا كانت أو باطلا.
- حرية الإنسان في الإعلان والتعبير عن رأيه -الذي توصل إليه واقتنع به بالبحث والنظر- أو قلد فيه غيره - وإشاعته بين الناس، والمنافحة عنه والاقناع به، سواء استقر الرأي نفسه مذهبا ومعتقدا، أو ظل ظنا ومحتملا يتفاعل به صاحبه مع الأخرين.. وهذا المعنى مترتب على ما قبله -حرية الفكر والنظر- لأن حرية التعبير عن الرأي هـي الثمرة المنطقية التي ينتجها الفكر السليم، والاعتقاد الحر، كما إن حرية التفكير لا تعني شيئا ما لم يصاحبها حرية التعبير، فالتعبير هـو الآلة التي توصل الفكرة، برة كانت أو فاجرة للناس، ولا يقتل الفكرة إلا الصمت عنها، أو خذلانها من الوصول للناس. [ ص: 80 ]
و ( حرية الرأي ) بهذين المعنيين هـي الحرية الأم، والمظهر الحي لكل الحريات؛ فلا قيمة لحرية الفكر وحرية الاعتقاد والتدين، وكرامة الإنسان، ما لم يكن هـناك حرية الرأي والتعبير. ومقتضاها: أن يكون الإنسان حرا في تفكيره، وتكوين رأيه، كما يشاء، وحرا في التعبير عنه متى شاء وكما يريد، وأن تتاح أسباب التعبير قولا وكتابة للرأي، وتداولا ومحاجة. فليس للسلطان أو المجتمع أن يمنع أحد من بلاغ رأي، أو مذهب يخرجه على الملأ، أو أن يردعه بنذر عقاب، أو أن يكبت أصول الرأي بالصد عن وسائل العلم التي تجمع بها مواد صناعة الرأي، أو عن أسباب الاتصال التي يتداول بها الرأي بين الناس، فهي حرية يتفرع عنه وتحمل في طياتها عدة أنواع من الحريات، مثل: حرية الصحافة، وحرية وسائل الإعلام من إذاعة وتلفاز، وحرية التعليم، وتأليف الكتب ونشرها، واستقاء الأنباء والأفكار وإذاعتها.
و ( حرية الرأي ) -بهذا المفهوم الشامل- مبدأ إسلامي أصيل، حيث يستطيع الإنسان، أن يفكر كما يشاء، ويقول ما يشاء، ويكتب ما يشاء، فى مدى المساحة الواسعة الممتدة، التي يمنحها الإسلام للمنتمين إلى مجتمعه، وهي مساحة كبيرة، لم توازها، أو تضارعها، أية تجربة أخرى، رغم ما يضعه الإسلام من ضوابط، ومعايير، والتزامات، إزاء حرية التعبير.
بل هـي من أولى الحريات التي كفلها الإسلام وأقرها للإنسان؛ لأنها المرتكز الأساس للكثير من القواعد الشرعية، والمدخل المعتبر إلى الإيمان الحق، والدعامة لجميع ما سنه الإسلام من نظم لعلاقات الأفراد بربهم، وعلاقاتهم بعضهم ببعض، وعلاقتهم بأولي الأمر، كما إنها تتفق وطبيعة دعوة [ ص: 81 ] الإسلام العالمية، فإعلانها وطرح أفكارها ومبادئها يقتضي بداهة حرية الرأي عند الطرفين، عند الداعية المسلم، وعند الطرف الثاني المخاطب بالدعوة مهما كان فكره واعتقاده؛ ومن ثم ندد الإسلام بالحجر على هـذه الحرية، أو إكراه الإنسان على عكسها؛ إذ كيف يطلق الله تعالى الحرية لعباده
( وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ) ( الكهف: 29) ،
ثم يأتي عبد من عبيده، فيحمل الناس بالقهر على رأي يرتأيه، أو على وضع محدد يرسمه لهم، دون أن يكون لغيره من البشر حق المخالفة والمعارضة!!
ثم إن الإسلام لم يكتف بإقرار حق التعبير والتفكير وحرية القول، بل جعله ضرورة وواجبا، يطوق به أعناق المسلمين، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام خطيبا، فكان فيما قال: ( ألا لا يمنعن رجلا هـيبة الناس أن يقول بحق إذا علمه ) [4]
وعنه أيضا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا يحقرن أحدكم نفسه أن يرى أمر الله فيه مقالا فلا يقول فيه فيقال له يوم القيامة: ما منعك أن تكون قلت في كذا وكذا فيقول: مخافة الناس، فيقول: إياي أحق أن تخاف ) [5]
، بل اعتبره الإسلام في بعض المراحل من أعلى أنواع الجهاد: ( إن من أعظم الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر )
[6] [ ص: 82 ] بل إن الإسلام كفل للناس حق مناقشة الرسول صلى الله عليه وسلم الرأي ومجادلته فيه!!
فقد ناقشت زوجة أوس بن الصامت النبي صلى الله عليه وسلم في ظهار زوجها لها، وأخذت تحاوره وتناقشه، بل وتجادله، حتى نزلت سورة ( المجادلة ) تصور تلك المجادلة وذلك الحوار،
يقول تعالى: ( قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير ) ( المجادلة: 1) ،
وهكذا تبدأ تلك السورة " بصورة عجيبة من صور هـذه الفترة الفريدة في تاريخ البشرية، فترة اتصال السماء بالأرض في صورة مباشرة محسوسة، ومشاركتها في الحياة اليومية لجماعة من الناس مشاركة ظاهرة:
( قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير ) .. فنشهد السماء تتدخل في شأن يومي لأسرة صغيرة فقيرة مغمورة، لتقرر حكم الله في قضيتها، وقد سمع -سبحانه- للمرأة وهي تحاور رسول الله فيها، ولم تكد تسمعها عائشة وهي قريبة منها ! وهي صورة تملأ القلب بوجود الله وقربه وعطفه ورعايته "
[7]
وقد وصل الأمر أن ربط الإسلام بين إنهيار الأمم وعجزها عن كلمة الحق، التي تسمى في عصرنا: ( حرية النقد ) كما جاء في الحديث الشريف: ( إذا رأيتم أمتي تهاب الظالم أن تقول له إنك أنت ظالم فقد تودع منهم )
[8]
أي: أصبحت لا غناء فيها، بعد أن جحدت رسالتها، وفقدت [ ص: 83 ] خصيصتها، وفي هـذا تحريض للأمة على ممارسة واجبها في حرية الرأي وحرية التعبير عنه؛ إذ حرية الرأي -في المنظور الإسلامي- ليست مجرد حق يطالب به، كما يمكن أن يتنازل عنه، بل هـي واجب وفريضة وأمانة يجب أداؤها، بل التضحية في سبيلها!!
ومن هـذا المنطلق، يتضح أن إبداء الرأي ليس منطلقا من حرية فردية، تدفع المرء إلى تبنيه أو رفضه؛ لكونه مرتبطا بالشرع الموجب للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ولعل هـذا يفسر لنا جرأة الصحابة، رضوان الله عليهم، على قول الحق دون تحفظ، حيث استوعب الصحابة الإطار الشرعي، المنظم لإبداء الرأي في حدود واجب الأمر بالمعروف المناصحة للحاكم، واتخذوه منهجا ووسيلة لتقويم الحاكم والمحافظة على القيم الإسلامية، والأحكام الإسلامية، مطبقة في واقع الحياة
[9] .
على أن ( حرية الرأي ) التي أوجبها الإسلام للإنسان ليست حقا خالصا للمسلم وحده، بل هـي حق مطلق للإنسان -كما هـو شأن الإسلام في تقرير حقوق الإنسان- مجرد الإنسان، مهما يكن دينه أو لونه أو وضعه الاجتماعي، فيأخذ غير المسلم نصيبه الكامل من حرية التفكير والتدبر والتأمل والمقارنة وإبداء الرأي، شريطة أن يخضع لقانون الجماعة ونظمها المقررة في حدود دستورها المنبثق من عقيدتها، تماما كما يخضع الغربي لقانون بلاده الصادر عن دستور يقوم على مثالية، أو فلسفة وضعية، سواء آمن بهذه المثالية، أو كفر بها؛ ومن ثم ذكر فقهاؤنا أن للذمي أو المواطن غير المسلم في [ ص: 84 ] الدولة الإسلامية الحق في حرية الرأي والتعبير دفاعا عن عقيدته، أو الدعوة اليها، أو النقد لغيرها، وإذاعة قيم هـويته، وذلك في وسطه الخاص، أو في الوسط العام بشرط عدم انتهاك الشعور العام للمسلمين.. وفي الحدود التي لا تجرح مشاعر الأغلبية التي احترمت -ابتداء- حق الأقلية في أن تعبر عن رأيها.
[10]
ولا يؤاخذ في ذلك -كما ذكرت ذلك فقهاء قدامى ومعاصرون- إلا على مجانبته للأساليب الموضوعية، والقيم الخلقية
[11] .
يقول العلامة المودودي ، رحمه الله: " سيكون لغير المسلمين في الدولة الإسلامية من حرية الخطابة والرأي والتفكير والاجتماع ما هـو للمسلمين سواء بسواء، وسيكون عليهم من القيود والالتزامات في هـذا الباب ما على المسلمين أنفسهم. فسيجوز له أن ينتقدوا الحكومة وعمالها، حتى رئيس الحكومة نفسه ضمن حدود القانون. سيكون لهم الحق في انتقاد الدين الإسلامي مثل ما للمسلمين الحق في نقدهم هـذا كوجوب ذلك على غير المسلمين، وسيكون لهم الحرية الكاملة في مدح نحلهم، وإن ارتد، أي المسلم، فسيقع وباء ارتداده على نفسه، ولا يؤخذ به غير المسلم، ولن يكره غير المسلمين في الدولة الإسلامية على عقيدة أو عمل يخالف ضميرهم، وسيكون لهم أن يأتوا كل ما يوافق ضميرهم من أعمال ما دام لا يصطدم بقانون الدولة " [12] . [ ص: 85 ]