المبحث الثاني: مراتب تحقيق المناط
إن ثبوت الحكم الشرعي من مأخذه مؤذن بالسير به نحو تنـزيله على مناطاته بالتحقيق؛ لأن الشريعة لم تنص على حكم كل جزئية على حدتها، بل أتت في الغالب بقواعد كلية وعبارات مطلقة متناولة داخلها أعدادا غير منحصرة من الجزئيات والوقائع المتمايزة والمتشابهة في نفس الوقت، وما على المجتهد إلا أن يبذل وسعه في تنزيل هـذه المطلقات والعمومات الحكمية على الأفعال والأحداث، التي لا تقع مطلقات بل معينة زمانا ومكانا وشخصا.
ولا يكون الحكم منـزلا عليها إلا إذا عرف أن هـذا الحكم التكليفي سمته التجريد والعموم قبل مرحلة تطبيقه وتحقيق مناطه في الجزئيات، وعلى المجتهد تنزيله على متعلقه على مستوى الأنواع والعينات المشخصة؛ لتحقيق المساواة المطلوبة بين الحكم التكليفي في تجريده وعموميته وبين الحكم التطبيقي في الواقع المتعلق به، ويتم ذلك على مرتبتين هـما:
1 - تحقيق المناط العام في الأنواع.
2 - تحقيق المناط الخاص في إطار الأفراد. [ ص: 51 ]
أولا: تحقيق المناط العام في الأنواع
إن الحكم التكليفي -كما سبق الإشارة، متسم بالتجريد والعموم، وعمومه يكون مسوقا إلى الوقائع في أجناسها، فهو غيـر محدد بزمـان أو مكان أو شخص معين، بل يشمل عموم المحكوم فيه والمحكوم عليه على سبيل الاستغراق، وأما تجريده فلوقوعه في الذهن متعقلا من مآخذه الشرعية دون تعلق بالوقائع الجزئية.
فإذا شرع في العمل على تطبيقه على الواقع حقق في مناطاته المتجهة ابتداء إلى الأنواع المشمولة بالحكم، فيناط بها مع التحرز مما يشتبه منها فيقصى من نطاق الحكم.
ومما يندرج في هـذا النوع من تحقيق المناط كون الحكم الذي ينطوي عليه النص يتجه إلى أجناس الأفعال؛ كاتجاه منع الشارع إلى السرقة والقتل والزنا، واتجاه وجوب الفعل إلى العمل والعدل والبر. وبالرجوع إلى الحياة الواقعية للبشر يتبين أن تصرفات الإنسان مشتملة على أنواع متعددة تشبه أن تكون مشمولة بتلك الأحكام في عمومها والمتجهة إلى الأجناس، فاختلاس نقود من جيب أحد المارة، والسطو على بنك والاستيلاء على ما فيه من المال، واغتصاب حافظة نقود من أحد رجال الأعمال صور تتقارب لتشبه أن تكون مشمولة بحكم السرقة التي حكمها القطع، وكذلك بذل الجهد في تعمير الأرض بزراعة ما يقتاته البشر، واستفراغ [ ص: 52 ] الوسع في زراعة المخدرات تتقارب في صورها لتشبه أن تكون مشمولة بحكم وجوب العمل [1] .
وهنا يبرز دور من يتولى تطبيق الحكم، وذلك في التمييز بين تلك الأنواع وإلحاق كل منها بجنسه ليناله حكمه وليس حكم غيره، وتظهر أيضا فعالية العقل بشكل أوسع؛ «لأن المقصود من هـذا الاجتهاد إنما هـو العلم بالموضوع على ما هـو عليه، وإنما يفتقر فيه إلى ما لا يعرف ذلك الموضوع إلا به من حيث قصدت المعرفة به، فلا بد أن يكون المجتهد عارفا ومجتهدا من تلك الجهة التي ينظر فيها؛ لينزل الحكم الشرعي على وفق ذلك المقتضى» [2] .
وهذا النوع من تحقيق المناط يبينه الشاطبي بكونه: «في تعيين المناط من حيث هـو لمكلف ما» [3] ، ويضرب لذلك مثلا بالعدالة، فإذا وجد شخص متصف بها حسبما يظهر للمجتهد فإنه يوقع عليه ما يقتضيه النص من التكاليف المنوطة بالعدول من الشهادات والانتصاب للولايات العامة أو الخاصة.
وهكذا إذا نظر في الأوامر والنواهي الندبية، والأمور الإباحية، ووجد المكلفين والمخاطبين على الجملة أوقع عليهم أحكام تلك [ ص: 53 ] النصوص، كما يوقع عليهم نصوص الواجبات والمحرمات من غير التفات إلى شيء غير القبول المشروط بالتهيئة الظاهرة، فالمكلفون كلهم في أحكام تلك النصوص على سواء في هـذا النظر.
فمعنى (العدالة) ثابت عندنا، ولكن يبقى تعيين من حصلت فيه هـذه الصفة، والناس فيها ليسوا على حد سواء، بل ذلك يختلف اختلافا متباينا، فإذا تأملنا العدول وجدنا لاتصافهم بها طرفين وواسطة: طرف أعلى في العدالة لا إشكال فيه كأبي بكر الصديق ، وطرف آخر وهو أول درجة في الخروج عن مقتضى الوصف؛ كالمجاوز لمرتبة الكفر إلى الحكم بمجرد الإسلام فضلا عن مرتكبي الكبائر المحدودين فيها. وبينهما مراتب لا تنحصر. وهذا الوسط غامض، لا بد فيه من بلوغ حد الوسع؛ وهو الاجتهاد [4] . وكذلك في حال من أوصى بماله للفقراء، فالنظر ينصب على تعيين من ينطبق عليه وصف الفقر لينزل عليه حكم الاستحقاق في الوصية.
وهنا «لا يمكن الاستغناء بالتقليد؛ لأن التقليد إنما يتصور بعد تحقيق مناط الحكم المقلد فيه، والمناط هـنا لم يتحقق بعد؛ لأن كل صورة من صوره النازلة نازلة مستأنفة في نفسها لم يتقدم لها نظير، وإن تقدم لها في نفس الأمر فلم يتقدم لنا، فلا بد من النظر فيها بالاجتهاد» [5] .
وهذا الجهد العقلي المبذول للتمييز بين الأنواع لإلحاق المراد بجـنسه لا يكفي فيه منطق افتراض الوقائع وبيان أحكامها سلفا قبل وقوعها [ ص: 54 ] لتصورها في الذهن منبتة عن ملابساتها وظروفها التي تتحكم في تكييف حكمها غالبا، ومن ثم فالحكم المقدر لا يقع على وجه صائب محقق لمقصد الشارع، ومن ثم اشتهر عن الإمام مالك رحمه الله كرهه الاجتهاد الافتراضي ؛ تبصرا منه بما قد يئول إليه من خطأ في إلحاق أنواع المحكوم عليه بأجناسها، وما قد يؤدي إليه من مخالفة المقصود شرعا؛ وذلك أن الوقائع المستأنفة لا يجري عليها العد لتطور الحياة وتشعب قضايا الإنسان وتشابكها، ومن ثم فتجويز الإمام الشاطبي وقوع التقليد في هـذا الضرب من تحقيق المناط قد لا يبرر إلا في حدود ضيقة.
ولعل سياق الشاطبي مفيد لتقليل ذلك حين قال: «وقد يكون من هـذا القسم -تحقيق المناط- ما يصح فيه التقليد؛ وذلك فيما اجتهد فيه الأولون من تحقيق المناط إذا كان متوجها على الأنواع لا على الأشخاص المعينة؛ كالمثل في جزاء الصيد، فإن الذي جاء في الشريعة
قوله تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم ) (المائدة:95) ،
وهذا ظاهر في اعتبار المثل، إلا أن المثل لا بد من تعيين نوعه، وكونه مثلا لهذا النوع المقتول ككون الكبش مثلا للضبع، والعنـز مثلا للغزال، والبلوغ في الغلام والجارية، وما أشبه ذلك» [6] . [ ص: 55 ] وتعد مرتبة تحقيق المناط النوعي مدخلا وإطارا محددا للاجتهاد في الأشخاص المعينة الذي لا غنى عن تحقيقه؛ إذ لا يمكن أن يحكم على واقعة محددة بحكم واحد مهما اختلفت ظروفها وملابساتها؛ ذلك لأن للأبعاد الزمانية والمكانية أثرا في تكييف حكم الواقعة، بغض النظر عن حكم أصل الفعل ابتداء.
ثانيا: تحقيق المناط الخاص في إطار الأفراد
وهذا التحقيق متجه إلى أفراد النوع الذي حقق كونه مناطا للحكم، فقد يرد على ذهن المجتهد المحقق اشتباه بعض أفراد النوع الواحد وجزئياته من وقائع وتصرفات مكلفين ببعضها الآخر، فيخالها موحدة المناط، بيد أنها عند التحقيق تفرق، وقد يسري عليها الاستثناء لظروف وملابسات طارئة، فيخرجها من المساق الكلي للحكم؛ إذ ليس من المعقول ولا المشروع استصحاب حكم واقعة حصلت على وقائع أخرى مفارقة لها في ملابساتها وإن تشابهت أو تماثلت في صورتها وشكلها، لكون تلك الظروف ذات أثر بالغ في تكييف الحكم الشرعي المراد إحكام الواقع به.
وهذا التحقيق ضروري؛ سواء في الحكم على الأفعال والنوازل وتكييفها بالوحي، إذ هـذه الوقائع «لا تثبت في الخارج إلا على كيفيات أحوال وهيئات، وتلك الهيئات محكمة في حقيقة الماهية حتى يحكم عليها بالكمال أو النقصان والصحة والبطلان، وهي مشخصات، وإلا لم يصح الحكم على صاحبها بشيء من ذلك؛ إذ هـي في الذهن كالمعدوم، وإن كان كذلك [ ص: 56 ] فالاعتبار فيها بما وقع في الخارج، وليس إلا أفعالا موصوفة بأمور خاصة لازمة، وأمور على خلاف ذلك» [7] . أما أثناء تنـزيل التكليف بالأمر على المكلف فلا بد من مراعاة قدرات هـذا المكلف واستعداداته، ومدى تحقيق تكليفه بهذا الأمر بهذا الشكل أو ذاك لمقصد الشرع من الحكم؛ لكون خطاب الشارع متوجها بحسب الأحوال والأشخاص والأوقات» [8] .
«وسـواء كانت تلك التكاليف متحتمة أم غير متحتمة، مما يتطلب فيها التعرف على مداخل الشيطان ومداخل الهوى والحظوظ العاجلة، حتى يلقيها هـذا المجتهد على ذلك المكلف بقيود التحرز من تلك المداخل» [9] ، أما ما لم يكن متحتما فإنه يختص بوجه آخر، كما يقرر الشاطبي : «وهو النظر فيما يصلح لكل مكلف في نفسه، بحسب وقت دون وقت، وحال دون حال، وشخص دون شخص؛ إذ النفوس ليست في قبول الأعمال الخاصة على وزان واحد، كما أنها في العلوم والصنائع كذلك» [10] .
«وصاحب هـذا التحقيق الخاص هـو الذي رزق نورا يعرف به النفوس ومراميها، وتفاوت إدراكها، وقوة تحملها للتكاليف، وصبرها على حمل أعبائها أو ضعفها، ويعرف التفاتها إلى الحظوظ العاجلة أو عدم [ ص: 57 ] التفاتها، فهو يحمل على كل نفس من أحكام النصوص ما يليق بها؛ بناء على أن ذلك هـو المقصود الشرعي في تلقي التكاليف» [11] .
ومن ثم فقد جرى التشريع الإسلامي -مثلا- على أن لا يفرض لكل جريمة من جرائم التعازير عقوبة معينة، كما تفعل القوانين الوضعية؛ لأن تقييد القاضي بعقوبة معينة يمنع العقوبة من أداء وظيفتها وتحقيق المقصد الذي من أجله شرع التعزير ، بل يجعل العقوبة غير عادلة في غالب الأحيان؛ لأن أحوال وملابسات الجرائم ومرتكبيها تختلف اختلافا واضحا عائدا إلى اختلاف الشخص والزمان والمكان، وما يفلح في تقويم مجرم قد لا يفلح في آخر، وما يردع مجرما قد لا يردع غيره.
ومن أجل هـذا وضعت لجرائم التعزير عقوبات متعددة مختلفة، هـي مجموعة كاملة من العقوبات تتسلسل من أقل العقوبات إلى أشدها، وترك للقاضي أن يختار من بينها العقوبة التي يراها كفيلة بتأديب الجاني وإصلاحه وحماية الجماعة من الإجرام. وللقاضي أن يعاقب بعقوبة واحدة أو أكثر، وله أن يخفف العقوبة أو يشددها إن كانت العقوبة ذات حدين بما يراه مناسبا لإصلاح المجرم، ولـه أن يوقف تنفيذ العقوبة إن رأى في ذلك ما يكفي لتأديب المجرم واستصلاحه وزجر غيره، وحماية الجماعة من شرور المجرمين [12] [ ص: 58 ] وهذا الأمر عائد إلى التحقيق في المناط الخاص بكل مجرم وجريمة،
وفي معنى قوله تعالى: ( إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم ) (المائدة:33) ،
قال الإمام مالك رحمه الله: إن هـذه العقوبات موكولة لنظر ولي الأمر؛ ليضع كل عقوبة على قدر جرم الجاني وكثرة مقامه في الفساد، فيقتله إن قتل، ويقطع يده إن سرق [13] .
وإذا كان للتشريع الإسـلامي سياسـة ذات قواعد محكمة، ينهض بها المجتهد إبان التطبيق؛ تحقيقا للعدل والمصحلة في الواقع المعيش بظروفه الملابسة وعوارضه المتغيرة، فإن للإفتاء أيضا هـذه السياسة عينها؛ لأنها من معين الاجتهاد، ولأن العدل لا يتجزأ، وحقائق المصالح الشرعية المعتبرة ومقاصد التشريع لا تتبدل، هـذا ما يؤكده الإمام الشاطبي بقوله: «يجيب (المفتي) السائل على ما يليق به في حالته على الخصوص إن كان له في المسألة حكم خاص» [14] . فيكون مبلغا للشريعة من جهة فهم المعاني من الألفاظ الشرعية، ومن جهة تحقيق مناطها وتنـزيلها على الأحكام، فهو على التحقيق «موقع للشريعة على أفعال المكلفين» [15] . [ ص: 59 ]