الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            ( 3950 ) مسألة ; قال : ( وإن كان زرعها ، فأدركها ربها والزرع قائم ، كان الزرع لصاحب الأرض ، وعليه النفقة ، وإن استحقت بعد أخذ الغاصب الزرع ، فعليه أجرة الأرض ) قوله : " فأدركها ربها " يعني استرجعها من الغاصب ، أو قدر على أخذها منه . وهو معنى قوله : " استحقت " . يعني أخذها مستحقها . فمتى كان هذا بعد حصاد الغاصب الزرع ، فإنه للغاصب .

                                                                                                                                            لا نعلم فيه خلافا ; وذلك لأنه نماء ماله ، وعليه الأجرة إلى وقت التسليم وضمان النقص . ولو لم يزرعها ، فنقصت لترك الزراعة ، كأراضي البصرة ، أو نقصت لغير ذلك ، ضمن نقصها أيضا ; لما قدمنا في المسألة التي قبل هذه . فأما إن أخذها صاحبها والزرع قائم فيها ، لم يملك إجبار الغاصب على قلعه ، وخير المالك بين أن يقر الزرع في الأرض إلى الحصاد ، ويأخذ من الغاصب أجر الأرض وأرش نقصها ، وبين أن يدفع إليه نفقته ويكون الزرع له .

                                                                                                                                            وبهذا قال أبو عبيد وقال أكثر الفقهاء : يملك إجبار الغاصب على قلعه ، والحكم فيه كالغرس سواء ، لقوله عليه السلام { : ليس لعرق ظالم حق } . ولأنه زرع في أرض غيره ظلما ، أشبه الغراس .

                                                                                                                                            ولنا ، ما روى رافع بن خديج ، قال : قال رسول الله : صلى الله عليه وسلم { من زرع في أرض قوم بغير إذنهم ، فليس له من الزرع شيء ، وعليه نفقته . } رواه أبو داود ، والترمذي ، وقال : حديث حسن . فيه دليل على أن الغاصب لا يجبر على قلعه ; لأنه ملك للمغصوب منه . وروي { أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى زرعا في أرض ظهير ، فأعجبه ، فقال : ما أحسن [ ص: 148 ] زرع ظهير . فقال : إنه ليس لظهير ، ولكنه لفلان . قال : فخذوا زرعكم ، وردوا عليه نفقته . قال رافع : فأخذنا زرعنا ، ورددنا عليه نفقته } .

                                                                                                                                            ولأنه أمكن رد المغصوب إلى مالكه من غير إتلاف مال الغاصب ، على قرب من الزمان ، فلم يجز إتلافه ، كما لو غصب سفينة ، فحمل فيها ماله . وأدخلها البحر ، أو غصب لوحا . فرقع به سفينة ، فإنه لا يجبر على رد المغصوب في اللجة ، وينتظر حتى ترسى ، صيانة للمال عن التلف . كذا هاهنا . ولأنه زرع حصل في ملك غيره ، فلم يجبر على قلعه على وجه يضر به . كما لو كانت الأرض مستعارة أو مشفوعة . وفارق الشجر والنخل ; لأن مدته تتطاول ، ولا يعلم متى ينقطع من الأرض ، فانتظاره يؤدي إلى ترك رد الأصل بالكلية .

                                                                                                                                            وحديثهم ورد في الغرس ، وحديثنا في الزرع ، فيجمع بين الحديثين ، ويعمل بكل واحد منهما في موضعه . وذلك أولى من إبطال أحدهما . إذا ثبت هذا ، فمتى رضي المالك بترك الزرع للغاصب . ويأخذ منه أجر الأرض . فله ذلك ; لأنه شغل المغصوب بماله ، فملك صاحبه أخذ أجره ، كما لو ترك في الدار طعاما أو أحجارا يحتاج في نقله إلى مدة .

                                                                                                                                            وإن أحب أخذ الزرع ، فله ذلك ، كما يستحق الشفيع أخذ شجر المشتري بقيمته . وفيما يرد على الغاصب روايتان ; إحداهما ، قيمة الزرع ; لأنه بدل عن الزرع . فيقدر بقيمته ، كما لو أتلفه . ولأن الزرع للغاصب إلى حين انتزاع المالك له منه ، بدليل أنه لو أخذه قبل انتزاع المالك له ، كان ملكا له .

                                                                                                                                            ولو لم يكن ملكا له لما ملكه بأخذه . فيكون أخذ المالك له تملكا له ، إلا أن يعوضه ، فيجب أن يكون بقيمته ، كما لو أخذ الشقص المشفوع . ويجب على الغاصب أجر الأرض إلى حين تسليم الزرع ; لأن الزرع كان محكوما له به ، وقد شغل به أرض غيره . والرواية الثانية ، أنه يرد على الغاصب ما أنفق من البذر ، ومؤنة الزرع في الحرث والسقي ، وغيره . وهذا الذي ذكره القاضي . وهو ظاهر كلام الخرقي وظاهر الحديث ، لقوله عليه السلام " عليه نفقته " . وقيمة الشيء لا تسمى نفقة له .

                                                                                                                                            والحديث ، مبني على هذه المسألة ; فإن أحمد إنما ذهب إلى هذا الحكم استحسانا ، على خلاف القياس ، فإن القياس أن الزرع لصاحب البذر ; لأنه نماء عين ماله ، فأشبه ما لو غصب دجاجة فحضنت بيضا له . أو طعاما فعلفه دواب له ، كان النماء له . وقد صرح به أحمد فقال : هذا شيء لا يوافق القياس ، أستحسن أن يدفع إليه نفقته ; للأثر . ولذلك جعلناه للغاصب إذا استحقت الأرض بعد أخذ الغاصب له ، وإذا كان العمل بالحديث ، فيجب أن يتبع مدلوله .

                                                                                                                                            ( 3951 ) فصل : فإن كان الزرع مما يبقى أصوله في الأرض ، ويجز مرة بعد أخرى كالرطبة والنعناع ، احتمل أن يكون حكمه ما ذكرنا ; لدخوله في عموم الزرع ، لأنه ليس له فرع قوي ، فأشبه الحنطة والشعير . واحتمل أن يكون حكمه حكم الغرس ; لبقاء أصله وتكرر أخذه ، ولأن القياس يقتضي أن يثبت لكل زرع مثل حكم الغرس ، وإنما ترك فيما تقل مدته للأثر ، ففيما عداه يبقى على قضية القياس .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية