وقال [ ص: 103 ] ، أبو حنيفة ، ومالك ، وأصحابهم : يصح ما لم يستثن الكل ، فلو قال : له علي مائة إلا تسعة وتسعين . لم يلزمه إلا واحد ، بدليل قوله تعالى : { والشافعي فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين } .
وقوله تعالى { : إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين } . فاستثنى في موضع الغاوين من العباد ، وفي موضع العباد من الغاوين ، وأيهما كان الأكثر فقد دل على استثناء الأكثر . وأنشدوا :
أدوا التي نقصت تسعين من مائة ثم ابعثوا حكما بالحق قواما
فاستثني تسعين من مائة ; لأنه في معنى الاستثناء . ومشبه به ، ولأنه استثنى البعض ، فجاز ، كاستثناء الأقل ، ولأنه رفع بعض ما تناوله اللفظ ، فجاز في الأكثر ، كالتخصيص والبدل .ولنا ، أنه لم يرد في لسان العرب الاستثناء إلا في الأقل ، وقد أنكروا استثناء الأكثر ، فقال : لم يأت الاستثناء إلا في القليل من الكثير ، ولو قال قائل : مائة إلا تسعة وتسعين . لم يكن متكلما بالعربية ، وكان عيا من الكلام ولكنة . أبو إسحاق الزجاج
وقال القتيبي : يقال : صمت الشهر إلا يوما . ولا يقال : صمت الشهر إلا تسعة وعشرين يوما . ويقال : لقيت القوم جميعهم إلا واحدا أو اثنين . ولا يجوز أن يقول : لقيت القوم إلا أكثرهم . وإذا لم يكن صحيحا في الكلام ، لم يرتفع به ما أقر به ، كاستثناء الكل . وكما لو قال : له علي عشرة ، بل خمسة . فأما ما احتجوا به من التنزيل ، فإنه في الآية الأولى استثنى المخلصين من بني آدم ، وهم الأقل ، كما قال تعالى { : إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم } .
وفي الأخرى استثنى الغاوين من العباد وهم الأقل ، فإن الملائكة من العباد ، وهم غير غاوين ، قال الله تعالى { : بل عباد مكرمون } . وقيل : الاستثناء في هذه الآية منقطع بمعنى الاستدراك ، فيكون قوله { : إن عبادي ليس لك عليهم سلطان } مبقى على عمومه ، لم يستثن منه شيء ، ثم استأنف { : إلا من اتبعك من الغاوين } . أي لكن من اتبعك من الغاوين فإنهم غووا باتباعك .
وقد دل على صحة هذا قوله في الآية الأخرى لأتباعه { : وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي } . وعلى هذا لا يكون لهم فيها حجة . وأما البيت فقال ابن فضال النحوي : هو بيت مصنوع ، لم يثبت عن العرب . على أن هذا ليس باستثناء ، فإن الاستثناء له كلمات مخصوصة ليس هاهنا شيء منها ، والقياس لا يجوز في اللغة : ثم نعارضه بأنه استثنى أكثر من النصف ، فلم يجز ، كاستثناء الكل .
والفرق بين استثناء الأكثر والأقل ، أن العرب استعملته في الأقل وحسنته ، ونفته في الأكثر وقبحته ، فلم يجز قياس ما قبحوه على ما جوزوه وحسنوه .