ثم قال تعالى : ( بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك هو الفوز العظيم ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : حقيقة البشارة ذكرناها في تفسير قوله : ( وبشر الذين آمنوا ) [ البقرة : 25 ] ثم قالوا : تقدير [ ص: 195 ] الآية : وتقول لهم الملائكة : بشراكم اليوم ، كما قال : ( والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم ) [ الرعد : 23 - 24 ] .
المسألة الثانية : دلت هذه الآية على أن ؛ لأنه تعالى بين أن هذه صفتهم يوم القيامة من غير تخصيص . المؤمنين لا ينالهم أهوال يوم القيامة
المسألة الثالثة : احتج الكعبي على أن الفاسق ليس بمؤمن ، فقال : لو كان مؤمنا لدخل تحت هذه البشارة ، ولو كان كذلك لقطع بأنه من أهل الجنة ، ولما لم يكن كذلك ثبت أنه ليس بمؤمن . والجواب : أن وسيدخل الجنة ويبقى فيها أبد الآباد ، فهو إذا قاطع بأنه من أهل الجنة ، فسقط هذا الاستدلال . الفاسق قاطع بأنه من أهل الجنة ؛ لأنه إما أن لا يدخل النار أو إن دخلها لكنه سيخرج منها
المسألة الرابعة : قوله : ( ذلك ) عائد إلى جميع ما تقدم وهو النور والبشرى بالجنات المخلدة .
المسألة الخامسة : قرئ : "ذلك الفوز" ، بإسقاط كلمة : هو .
واعلم أنه تعالى لما شرح حال المؤمنين في موقف القيامة أتبع ذلك بشرح . حال المنافقين
فقال : ( يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : " يوم يقول " بدل من ( يوم ترى ) ، أو هو أيضا منصوب بـ"اذكر" تقديرا .
المسألة الثانية : قرأ حمزة وحده : "أنظرونا" مكسورة الظاء ، والباقون : "انظروا" ، قال أبو علي الفارسي : لفظ النظر يستعمل على ضروب :
أحدها : أن تريد به : نظرت إلى الشيء ، فيحذف الجار ويوصل الفعل ، كما أنشد أبو الحسن :
ظاهرات الجمال والحسن ينظرن كما ينظر الأراك الظباء
والمعنى ينظرن إلى الأراك .
وثانيها : أن تريد به تأملت وتدبرت ، ومنه قولك : اذهب فانظر زيدا أيؤمن ؟ فهذا يراد به التأمل ، ومنه قوله تعالى : ( انظر كيف ضربوا لك الأمثال ) [ الإسراء : 48 ] ، ( انظر كيف يفترون على الله الكذب [ النساء : 50 ] ، ( انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض ) [ الإسراء : 21 ] قال : وقد يتعدى هذا بإلى كقوله : ( أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت ) [ الغاشية : 17 ] وهذا نص على التأمل ، وبين وجه الحكمة فيه ، وقد يتعدى بفي ، كقوله : ( أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض ) ، ( أولم يتفكروا في أنفسهم ) .
وثالثها : أن يراد بالنظر الرؤية كما في قوله :
ولما بدا حوران والآل دونه نظرت فلم تنظر بعينك منظرا
والمعنى نظرت ، فلم تر بعينك منظرا تعرفه في الآل ، قال : إلا أن هذا على سبيل المجاز ؛ لأنه دلت الدلائل على أن النظر عبارة عن تقلب الحدقة نحو المرئي التماسا لرؤيته ، فلما كانت الرؤية من توابع النظر ولوازمه غالبا أجرى على الرؤية لفظ النظر على سبيل إطلاق اسم السبب على المسبب ، قال : ويجوز أن يكون قوله : نظرت فلم تنظر ، كما يقال : تكلمت وما تكلمت ، أي ما تكلمت بكلام مفيد ، فكذا هنا نظرت وما نظرت [ ص: 196 ] نظرا مفيدا .
ورابعها : أن يكون النظر بمعنى الانتظار ، ومنه قوله تعالى : ( إلى طعام غير ناظرين إناه ) [ الأحزاب : 53 ] أي غير منتظرين إدراكه وبلوغه ، وعلى هذا الوجه يكون نظرت معناه انتظرت ، ومجيء فعلت وافتعلت بمعنى واحد كثير ، كقولهم : شويت واشتويت ، وحقرت واحتقرت ، إذا عرفت هذا فقوله : ( انظرونا ) يحتمل وجهين :
الأول : انظرونا ، أي انتظرونا ؛ لأنه ، والمنافقون مشاة . يسرع بالمؤمنين إلى الجنة كالبروق الخاطفة
والثاني : انظرونا أي انظروا إلينا ؛ لأنهم إذا نظروا إليهم استقبلوهم بوجوههم ، والنور بين أيديهم ، فيستضيئون به ، وأما قراءة" أنظرونا" مكسورة الظاء فهي من النظرة والإمهال ، ومنه قوله تعالى : ( أنظرني إلى يوم يبعثون ) [ الأعراف : 14 ] وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإنظار المعسر ، والمعنى أنه جعل اتئادهم في المشي إلى أن يلحقوا بهم إنظارا لهم .
واعلم أن أبا عبيدة والأخفش كانا يطعنان في صحة هذه القراءة ، وقد ظهر الآن وجه صحتها .
المسألة الثالثة : اعلم أن الاحتمالات في هذا الباب ثلاثة :
أحدها : أن يكون الناس كلهم في الظلمات ، ثم إنه تعالى يعطي المؤمنين هذه الأنوار ، والمنافقون يطلبونها منهم .
وثانيها : أن تكون الناس كلهم في الأنوار ، ثم إن المؤمنين يكونون في الجنات فيمرون سريعا ، والمنافقون يبقون وراءهم فيطلبون منهم الانتظار .
وثالثها : أن يكون المؤمنون في النور والمنافقون في الظلمات ، ثم المنافقون يطلبون النور مع المؤمنين ، وقد ذهب إلى كل واحد من هذه الاحتمالات قوم ، فإن كانت هذه الحالة إنما تقع عند الموقف ، فالمراد من قوله : ( انظرونا ) انظروا إلينا ؛ لأنهم إذا نظروا إليهم ، فقد أقبلوا عليهم ، ومتى أقبلوا عليهم وكانت أنوارهم من قدامهم استضاءوا بتلك الأنوار ، وإن كانت هذه الحالة إنما تقع عند مسير المؤمنين إلى الجنة ، كان المراد من قوله : ( انظرونا ) يحتمل أن يكون هو الانتظار وأن يكون النظر إليهم .
المسألة الرابعة : القبس : الشعلة من النار أو السراج ، والمنافقون طمعوا في شيء من أنوار المؤمنين أن يقتبسوه كاقتباس نيران الدنيا وهو منهم جهل ؛ لأن تلك ، فلما لم توجد تلك الأعمال في الدنيا امتنع حصول تلك الأنوار في الآخرة . قال الأنوار نتائج الأعمال الصالحة في الدنيا الحسن : يعطى يوم القيامة كل أحد نورا على قدر عمله ، ثم إنه يؤخذ من حر جهنم ومما فيه من الكلاليب والحسك ويلقى على الطريق ، فتمضي زمرة من المؤمنين وجوههم كالقمر ليلة البدر ، ثم تمضي زمرة أخرى كأضواء الكواكب في السماء ، ثم على ذلك تغشاهم ظلمة فتطفئ نور المنافقين ، فهنالك يقول المنافقون للمؤمنين : ( انظرونا نقتبس من نوركم ) كقبس النار .
المسألة الخامسة : ذكروا في المراد من قوله تعالى : ( قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا ) وجوها :
أحدها : أن المراد منه : ارجعوا إلى دار الدنيا فالتمسوا هذه الأنوار هنالك ، فإن هذه الأنوار إنما تتولد من اكتساب المعارف الإلهية ، والأخلاق الفاضلة ، والتنزه عن الجهل والأخلاق الذميمة ، والمراد من ضرب السور هو امتناع العود إلى الدنيا .
وثانيها : قال أبو أمامة : الناس يكونون في ظلمة شديدة ، ثم المؤمنون يعطون الأنوار ، فإذا أسرع المؤمن في الذهاب قال المنافق : ( انظرونا نقتبس من نوركم ) فيقال لهم : ( ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا ) قال : وهي خدعة خدع بها المنافقون ، كما قال : ( يخادعون الله وهو خادعهم ) [ النساء : 142 ] فيرجعون إلى المكان الذي قسم فيه النور فلا يجدون شيئا ، فينصرفون إليهم فيجدون السور مضروبا [ ص: 197 ] بينهم وبين المؤمنين .
وثالثها : قال أبو مسلم : المراد من قول المؤمنين : ( ارجعوا ) منع المنافقين عن الاستضاءة ، كقول الرجل لمن يريد القرب منه : وراءك أوسع لك ، فعلى هذا القول المقصود من قوله : ( ارجعوا ) أن يقطعوا بأنه لا سبيل لهم إلى وجدان هذا المطلوب البتة ، لا أنه أمر لهم بالرجوع .