( ولقد راودوه عن ضيفه فطمسنا أعينهم فذوقوا عذابي ونذر )
ثم قال تعالى : ( ولقد راودوه عن ضيفه فطمسنا أعينهم فذوقوا عذابي ونذر ) والمراودة من الرود ، ومنه الإرادة وهي قريبة من المطالبة غير أن المطالبة تستعمل في العين ، يقال : طالب زيد عمرا بالدراهم ، والمراودة لا تستعمل إلا في العمل ، يقال : راوده عن المساعدة ، ولهذا تعدى المراودة إلى مفعول ثان بـ " عن " ، والمطالبة بالباء ؛ وذلك لأن الشغل منوط باختيار الفاعل ، والعين قد توجد من غير اختيار منه وهذا فرق الحال ، فإذا قلت : أخبرني بأمره تعين عليه الخبر العين ، بخلاف ما إذا قيل عن كذا ، ويزيد هذا ظهورا قول القائل : أخبرني زيد عن مجيء فلان ، وقوله : أخبرني بمجيئه فإن من قال عن مجيئه ، ربما يكون الإخبار عن كيفية المجيء لا عن نفسه وأخبرني بمجيئه لا يكون إلا عن نفس المجيء ، ، وقد ذكرناه في سورة الذاريات وكيفية المراودة مذكورة فيما تقدم ، وهي أنهم كانوا مفسدين ، وسمعوا بضيف دخلوا على والضيف يقع على الواحد والجماعة لوط فراودوه عنهم . وقوله : ( فطمسنا أعينهم ) نقول : إن جبريل كان فيهم فضرب ببعض جناحه على وجوههم فأعماهم ، وفي الآية مسائل :
الأولى : الضمير في راودوه إن كان عائدا إلى قوم لوط فما في قوله : ( أعينهم ) أيضا عائدا إليهم فيكون قد طمس أعين قوم ولم يطمس إلا أعين قليل منهم ، وهم الذين دخلوا دار لوط ، وإن كان عائدا إلى الذين دخلوا الدار فلا ذكر لهم فكيف القول فيه ؟ نقول : المراودة حقيقة حصلت من جمع منهم لكن لما كان الأمر من القوم ، وكان غيرهم ذلك مذهبه أسندها إلى الكل ثم بقوله راودوه حصل قوم هم المراودون حقيقة ، فعاد الضمير في أعينهم إليهم مثاله قول القائل : الذين آمنوا صلوا فصحت صلاتهم فيكون هم في صلاتهم عائدا إلى الذين صلوا بعد ما آمنوا ولا يعود إلى مجرد الذين آمنوا لأنك لو اقتصرت على الذين آمنوا ، فصحت صلاتهم لم يكن كلاما منظوما ولو قلت : الذين صلوا فصحت صلاتهم صح الكلام ، فعلم أن الضمير عائد إلى ما حصل بعد قوله : ( راودوه ) والضمير في راودوه عائد إلى المنذرين المتمارين بالنذر .
المسألة الثانية : قال هاهنا : ( فطمسنا أعينهم ) وقال في يس : ( ولو نشاء لطمسنا على أعينهم ) [ يس : 66 ] فما الفرق ؟ نقول : هذا مما يؤيد قول فإنه نقل عنه أنه قال : المراد من الطمس الحجب عن الإدراك ، فما جعل على بصرهم شيء غير أنهم دخلوا ولم يروا هناك شيئا فكانوا كالمطموسين ، وفي يس أراد أنه لو شاء لجعل على بصرهم غشاوة ، أي ألزق أحد الجفنين بالآخر فيكون على العين جلدة فيكون قد طمس عليها ، وقال غيره : إنهم عموا وصارت عينهم مع وجههم كالصفحة الواحدة ، ويؤيده قوله تعالى : ( ابن عباس فذوقوا عذابي ) لأنهم إن بقوا مصرين ولم يروا شيئا هناك لا يكون ذلك عذابا ، والطمس بالمعنى الذي قاله غير عذاب ، فنقول : الأولى أن يقال : إنه تعالى حكى هاهنا ما وقع وهو طمس العين وإذهاب ضوئها وصورتها [ ص: 55 ] بالكلية حتى صارت وجوههم كالصفحة الملساء ولم يمكنهم الإنكار لأنه أمر وقع ، وأما هناك فقد خوفهم بالممكن المقدور عليه فاختار ما يصدقه كل أحد ، ويعرف به وهو الطمس على العين ؛ لأن إطباق الجفن على العين أمر كثير الوقوع ، وهو بقدرة الله تعالى وإرادته فقال : ( ابن عباس ولو نشاء لطمسنا على أعينهم ) وما شققنا جفونهم عن عينهم ، وهو أمر ظاهر الإمكان كثير الوقوع ، ، فقال هناك : " على أعينهم " ليكون أقرب إلى القبول . والطمس على ما وقع لقوم لوط نادر
المسألة الثالثة : قوله تعالى : ( فذوقوا عذابي ونذر ) خطاب ممن وقع ومع من وقع ؟ قلنا : فيه وجوه :
أحدها : فيه إضمار تقديره فقلت : على لسان الملائكة ذوقوا عذابي .
ثانيها : هذا خطاب مع كل مكذب تقديره كنتم تكذبون فذوقوا عذابي فإنهم لما كذبوا ذاقوه .
ثالثها : أن هذا الكلام خرج مخرج كلام الناس فإن الواحد من الملوك إذا أمر بضرب مجرم وهو شديد الغضب فإذا ضرب ضربا مبرحا وهو يصرخ والملك يسمع صراخه يقول عند سماع صراخه : ذق إنك مجرم مستأهل ، ويعلم الملك أن المعذب لا يسمع كلامه ويخاطب بكلامه المستغيث الصارخ . وهذا كثير فكذلك لما كان كل أحد بمرأى من الله تعالى يسمع إذا عذب معاندا كان قد سخط الله عليه يقول : ( ذق إنك أنت العزيز الكريم ) [ الدخان : 49 ] ( فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا ) [ السجدة : 14 ] ( فذوقوا عذابي ) ولا يكون به مخاطبا لمن يسمع ويجيب ، وذلك إظهار العدل أي لست بغافل عن تعذيبك فتتخلص بالصراخ والضراعة ، وإنما أنا بك عالم وأنت له أهل لما قد صدر منك ، فإن قيل : هذا وقع بغير الفاء ، وأما بالفاء فلا تقول ، وبالفاء فإنه ربما يقول : كنتم تكذبون فذوقوا .
المسألة الرابعة : ؟ نقول : معناه ذق فعلك أي : مجازاة فعلك وموجبه ويقال : ذق الألم على فعلك وقوله : ( النذر كيف يذاق فذوقوا عذابي ) كقولهم : ذق الألم ، وقوله : ( ونذر ) كقولهم ذق فعلك أي ذق ما لزم من إنذاري ، فإن قيل : فعلى هذا لا يصح العطف لأن قوله : ( فذوقوا عذابي ) وما لزم من إنذاري وهو العذاب يكون كقول القائل : ذوقوا عذابي وعذابي ؟ نقول : قوله تعالى : ( فذوقوا عذابي ) أي : العاجل منه ، وما لزم من إنذاري وهو العذاب الآجل ؛ لأن الإنذار كان به على ما تقدم بيانه ، فكأنه قال : ذوقوا عذابي العاجل وعذابي الآجل ، فإن قيل : هما لم يكونا في زمان واحد ، فكيف يقال : ذوقوا ، نقول : العذاب الآجل أوله متصل بآخر العذاب العاجل ، فهما كالواقع في زمان واحد وهو كقوله تعالى : ( أغرقوا فأدخلوا نارا ) [ نوح : 25 ] .