المسألة الأولى : قرأ نافع وأبو عمرو " الجواري " بياء في الوصل والوقف ، فإثبات الياء على الأصل ، وحذفها للتخفيف .
المسألة الثانية : الجواري ، يعني السفن الجواري ، فحذف الموصوف لعدم الالتباس .
المسألة الثالثة : اعلم أنه تعالى ذكر من آياته أيضا هذه السفن العظيمة التي تجري على وجه البحر عند هبوب الرياح ، واعلم أن المقصود من ذكره أمران :
أحدهما : أن يستدل به على وجود القادر الحكيم .
والثاني : أن يعرف ما فيه من . النعم العظيمة لله تعالى على العباد
أما الوجه الأول : فقد اتفقوا على أن المراد بالأعلام الجبال ، قالت الخنساء في مرثية أخيها :
وإن صخرا لتأتم الهداة به كأنه علم في رأسه نار
ونقل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استنشد قصيدتها هذه ، فلما وصل الراوي إلى هذا البيت ، قال : "قاتلها الله ، ما رضيت بتشبيهها له بالجبل حتى جعلت على رأسه نارا !" إذا عرفت هذا ، فنقول : هذه السفن العظيمة التي تكون كالجبال تجري على وجه البحر عند هبوب الرياح على أسرع الوجوه ، وعند سكون هذه الرياح تقف ، وقد بينا بالدليل في سورة النحل أن محرك الرياح ومسكنها هو الله تعالى ، إذ لا يقدر أحد على تحريكها من البشر ولا على تسكينها ، وذلك يدل على وجود الإله القادر ، وأيضا أن السفينة تكون في غاية الثقل ، ثم إنها مع ثقلها بقيت على وجه الماء ، وهو أيضا دلالة أخرى .وأما الوجه الثاني : وهو معرفة ما فيها من المنافع ، فهو أنه تعالى خص كل جانب من جوانب الأرض بنوع آخر من الأمتعة ، وإذا نقل متاع هذا الجانب إلى ذلك الجانب في السفن ، وبالعكس - حصلت المنافع العظيمة في التجارة ، فلهذه الأسباب ذكر الله تعالى حال هذه السفينة .
ثم قال تعالى : ( إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره ) قرأ أبو عمرو والجمهور بهمزة ( إن يشأ ) لأن سكون الهمزة علامة للجزم ، وعن عن ورش نافع بلا همزة ، وقرأ نافع وحده " يسكن الرياح " على الجمع ، والباقون ( الريح ) على الواحد ، قال صاحب "الكشاف" : قرئ ( يظللن ) بفتح اللام وكسرها ؛ من ظل يظل ويظل ، وقوله تعالى : ( رواكد ) أي رواتب ، أي : لا تجري على ظهره ، أي على ظهر البحر ( إن في ذلك لآيات لكل صبار ) على بلاء الله ( شكور ) لنعمائه ، والمقصود التنبيه على أن المؤمن يجب أن لا يكون غافلا عن دلائل معرفة الله البتة ؛ لأنه لا بد وأن يكون إما في البلاء ، وإما في الآلاء ، فإن كان في البلاء كان من الصابرين ، وإن كان في النعماء كان من الشاكرين ، وعلى هذا التقدير فإنه لا يكون البتة من الغافلين .
ثم قال تعالى : ( أو يوبقهن بما كسبوا ) يعني : أو يهلكهن ، يقال أوبقه ، أي أهلكه ، ويقال للمجرم أوبقته ذنوبه ، أي أهلكته ، والمعنى أنه تعالى إن شاء ابتلى المسافرين في البحر بإحدى بليتين : إما أن يسكن الريح [ ص: 151 ] فتركد الجواري على متن البحر وتقف ، وإما أن يرسل الرياح عاصفة فيها فيهلكن بسبب الإغراق ، وعلى هذا التقدير فقوله ( أو يوبقهن ) معطوف على قوله ( يسكن ) لأن التقدير : إن يشأ يسكن الريح فيركدن ، أو يعصفها فيغرقن بعصفها ، وقوله ( ويعف عن كثير ) معناه إن يشأ يهلك ناسا وينج ناسا عن طريق العفو عنهم ، فإن قيل : فما معنى إدخال العفو في حكم الإيباق حيث جعل مجزوما مثله ؟ قلنا : معناه إن يشأ يهلك ناسا وينج ناسا على طريق العفو عنهم ، وأما من قرأ "ويعفو" فقد استأنف الكلام .
ثم قال : ( ويعلم الذين يجادلون في آياتنا ما لهم من محيص ) قرأ نافع وابن عامر : " يعلم " بالرفع على الاستئناف ، وقرأ الباقون بالنصب ، فالقراءة بالرفع على الاستئناف ، وأما بالنصب فللعطف على تعليل محذوف تقديره لينتقم منهم ( ويعلم الذين يجادلون في آياتنا ) والعطف على التعليل المحذوف غير عزيز في القرآن ، ومنه قوله تعالى : ( ولنجعله آية للناس ) وقوله تعالى : ( وخلق الله السماوات والأرض بالحق ولتجزى كل نفس بما كسبت ) [الجاثية : 22] قال صاحب "الكشاف" : ومن قرأ على جزم " ويعلم " فكأنه قال : أو إن يشأ ، يجمع بين ثلاثة أمور : هلاك قوم ، ونجاة قوم ، وتحذير آخرين . إذا عرفت هذا فنقول : معنى الآية ( ويعلم الذين يجادلون ) أي ينازعون على وجه التكذيب ، أن لا مخلص لهم إذا وقفت السفن ، وإذا عصفت الرياح ، فيصير ذلك سببا لاعترافهم بأن الإله النافع الضار ليس إلا الله .
واعلم أنه تعالى لما ذكر دلائل التوحيد أردفها بالتفسير عن ، لأن الذي يمنع من قبول الدليل إنما هو الرغبة في الدنيا بسبب الرياسة وطلب الجاه ، فإذا صغرت الدنيا في عين الرجل لم يلتفت إليها ، فحينئذ ينتفع بذكر الدلائل ، فقال : ( الدنيا وتحقير شأنها فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا ) وسماه متاعا تنبيها على قلته وحقارته ، ولأن الحس شاهد بأن كل ما يتعلق بالدنيا فإنه يكون سريع الانقراض والانقضاء .
ثم قال تعالى : ( وما عند الله خير وأبقى ) والمعنى أن مطالب الدنيا خسيسة منقرضة ، ونبه على خساستها بتسميتها بالمتاع ، ونبه على انقراضها بأن جعلها من الدنيا ، وأما ، وصريح العقل يقتضي ترجيح الخير الباقي على الخسيس الفاني ، ثم بين أن هذه الخيرية إنما تحصل لمن كان موصوفا بصفات : الآخرة فإنها خير وأبقى
الصفة الأولى : أن يكون من المؤمنين بدليل قوله تعالى : ( للذين آمنوا ) .
الصفة الثانية : أن يكون من المتوكلين على فضل الله ، بدليل قوله تعالى : ( وعلى ربهم يتوكلون ) فأما من زعم أن الطاعة توجب الثواب ، فهو متكل على عمل نفسه لا على الله ، فلا يدخل تحت الآية .
الصفة الثالثة : أن يكونوا مجتنبين لكبائر الإثم والفواحش ، عن : كبير الإثم هو الشرك ، نقله صاحب "الكشاف" : وهو عندي بعيد ، لأن شرط الإيمان مذكور أولا ، وهو يغني عن عدم الشرك ، وقيل : ابن عباس ما يتعلق بالبدع واستخراج الشبهات ، وبالفواحش ما يتعلق بالقوة الشهوانية ، وبقوله ( المراد بكبائر الإثم وإذا ما غضبوا هم يغفرون ) ما يتعلق بالقوة الغضبية ، وإنما خص الغضب بلفظ الغفران ؛ لأن الغضب على طبع النار ، واستيلاؤه شديد ومقاومته صعبة فلهذا السبب خصه بهذا اللفظ ، والله أعلم .
الصفة الرابعة : قوله تعالى : ( والذين استجابوا لربهم ) والمراد منه تمام الانقياد ، فإن قالوا أليس أنه لما [ ص: 152 ] جعل الإيمان شرطا فيه ، فقد دخل في الإيمان إجابة الله ؟ قلنا : الأقرب عندي أن يحمل هذا على ، وأن لا يكون في قلبه منازعة في أمر من الأمور . الرضاء بقضاء الله من صميم القلب
ولما ذكر هذا الشرط قال : ( وأقاموا الصلاة ) والمراد منه ، لأن هذا هو الشرط في حصول الثواب . إقامة الصلوات الواجبة
وأما قوله تعالى : ( وأمرهم شورى بينهم ) فقيل : كان إذا وقعت بينهم واقعة اجتمعوا وتشاوروا ، فأثنى الله عليهم ، أي : لا ينفردون برأي ، بل ما لم يجتمعوا عليه لا يقدمون عليه ، وعن الحسن : ، والشورى مصدر كالفتيا ، بمعنى التشاور ، ومعنى قوله ( ما تشاور قوم إلا هدوا لأرشد أمرهم وأمرهم شورى بينهم ) أي ذو شورى .
الصفة الخامسة : قوله تعالى : ( والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون ) والمعنى أن يقتصروا في الانتصار على ما يجعله الله لهم ولا يتعدونه ، وعن أنه كان إذا قرأها قال : كانوا يكرهون أن يذلوا أنفسهم ، فيجترئ عليهم السفهاء ، فإن قيل : هذه الآية مشكلة لوجهين : النخعي
الأول : أنه لما ذكر قبله ( وإذا ما غضبوا هم يغفرون ) فكيف يليق أن يذكر معه ما يجري مجرى الضد له ، وهو قوله ( والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون ) ؟
الثاني : وهو أن جميع الآيات دالة على أن العفو أحسن ، قال تعالى : ( وأن تعفوا أقرب للتقوى ) [البقرة : 237] وقال : ( وإذا مروا باللغو مروا كراما ) [الفرقان : 72] وقال : ( خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين ) [الأعراف : 199] وقال : ( وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين ) [النحل : 126] فهذه الآيات تناقض مدلول هذه الآية . والجواب : أن : العفو على قسمين
أحدهما : أن يكون العفو سببا لتسكين الفتنة وجناية الجاني ورجوعه عن جنايته .
والثاني : أن يصير العفو سببا لمزيد جراءة الجاني ولقوة غيظه وغضبه .
الآيات في العفو محمولة على القسم الأول ، وهذه الآية محمولة على القسم الثاني ، وحينئذ يزول التناقض والله أعلم ، ألا ترى أن العفو عن المصر يكون كالإغراء له ولغيره ، فلو أن رجلا وجد عبده فجر بجاريته وهو مصر ، فلو عفا عنه كان مذموما ، وروي زينب أقبلت على فشتمتها ، فنهاها النبي - صلى الله عليه وسلم - عنها فلم تنته ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : دونك فانتصري عائشة وأيضا : إنه تعالى لم يرغب في الانتصار ، بل بين أنه مشروع فقط ، ثم بين بعده أن شرعه مشروط برعاية المماثلة ، ثم بين أن العفو أولى بقوله ( أن فمن عفا وأصلح فأجره على الله ) فزال السؤال ، والله أعلم .