( قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم وأرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين )
قوله تعالى : ( قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين قلنا يانار كوني بردا وسلاما على إبراهيم وأرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين )
اعلم أنه تعالى لما بين ما أظهره إبراهيم عليه السلام من دلائل التوحيد وإبطال ما كانوا عليه من عبادة التماثيل أتبعه بما يدل على جهلهم ، وأنهم : ( قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم ) وهاهنا مسائل :
المسألة الأولى : ليس في القرآن من القائل لذلك ، والمشهور أنه نمروذ بن كنعان بن سنجاريب بن نمروذ بن كوش بن حام بن نوح ، وقال : سمعت مجاهد ابن عمر يقول : إنما أشار بتحريق إبراهيم عليه السلام رجل من الكرد من أعراب فارس ، وروى عن ابن جريج وهب ، عن شعيب الجبائي قال : إن الذي قال : حرقوه . رجل اسمه هيرين ، فخسف الله تعالى به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة .
المسألة الثانية : أما كيفية القصة فقال مقاتل : لما اجتمع نمروذ وقومه إبراهيم حبسوه في بيت وبنوا بنيانا كالحظيرة ، وذلك قوله : ( لإحراق قالوا ابنوا له بنيانا فألقوه في الجحيم ) [ الصافات : 97 ] ثم جمعوا له الحطب الكثير حتى إن المرأة لو مرضت قالت : إن عافاني الله لأجعلن حطبا لإبراهيم ، ونقلوا له الحطب على الدواب أربعين يوما ، فلما اشتعلت النار اشتدت وصار الهواء بحيث لو مر الطير في أقصى الهواء لاحترق ، ثم أخذوا إبراهيم عليه السلام ورفعوه على رأس البنيان وقيدوه ، ثم اتخذوا منجنيقا ووضعوه فيه مقيدا مغلولا ، فصاحت السماء والأرض ومن فيها من الملائكة إلا الثقلين صيحة واحدة ، أي ربنا ليس في أرضك أحد يعبدك غير إبراهيم ، وإنه يحرق فيك ، فأذن لنا في نصرته ، فقال سبحانه : إن استغاث بأحد منكم فأغيثوه ، وإن لم يدع غيري فأنا أعلم به ، وأنا وليه ، فخلوا بيني وبينه ، فلما أرادوا إلقاءه في النار ، أتاه خازن الرياح فقال : إن شئت طيرت النار في الهواء ، فقال إبراهيم عليه السلام : لا حاجة بي إليكم ، ثم رفع رأسه إلى السماء وقال : " اللهم أنت الواحد في السماء ، وأنا الواحد في الأرض ، ليس في الأرض أحد يعبدك غيري ، أنت حسبنا ونعم الوكيل " وقيل : إنه حين ألقي في النار قال : " لا إله إلا أنت سبحانك ، رب العالمين ، لك الحمد ولك الملك ، لا شريك لك " ثم وضعوه في المنجنيق ورموا به في النار ، فأتاه جبريل عليه السلام وقال : يا إبراهيم ، هل لك حاجة ، قال : أما إليك فلا ؟ قال : فاسأل ربك ، قال : حسبي من سؤالي علمه [ ص: 163 ] بحالي ؛ فقال الله تعالى : ( يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم ) .
وقال السدي : إنما قال ذلك جبريل عليه السلام ، قال - رضي الله عنهما - في رواية ابن عباس : ولو لم يتبع بردا سلاما لمات مجاهد إبراهيم من بردها ، قال : ولم يبق يومئذ في الدنيا نار إلا طفئت ، ثم قال السدي : فأخذت الملائكة بضبعي إبراهيم وأقعدوه في الأرض ، فإذا عين ماء عذب ، وورد أحمر ونرجس . ولم تحرق النار منه إلا وثاقه ، وقال : أخبرت المنهال بن عمرو إبراهيم عليه السلام لما ألقي في النار كان فيها إما أربعين يوما أو خمسين يوما ، وقال : ما كنت أياما أطيب عيشا مني إذ كنت فيها ، وقال أن ابن إسحاق : بعث الله ملك الظل في صورة إبراهيم ، فقعد إلى جنب إبراهيم يؤنسه ، وأتاه جبريل بقميص من حرير الجنة ، وقال : يا إبراهيم ، إن ربك يقول : أما علمت أن النار لا تضر أحبابي ، ثم نظر نمروذ من صرح له وأشرف على إبراهيم ، فرآه جالسا في روضة ، ورأى الملك قاعدا إلى جنبه وما حوله نار تحرق الحطب ، فناداه نمروذ : يا إبراهيم ، هل تستطيع أن تخرج منها ؟ قال : نعم ، قال : قم فاخرج ، فقام يمشي حتى خرج منها ، فلما خرج قال له نمروذ : من الرجل الذي رأيته معك في صورتك ؟ قال : ذاك ملك الظل أرسله ربي ليؤنسني فيها . فقال نمروذ : إني مقرب إلى ربك قربانا لما رأيت من قدرته وعزته فيما صنع بك ، فإني ذابح له أربعة آلاف بقرة ، فقال إبراهيم عليه السلام : لا يقبل الله منك ما دمت على دينك ، فقال نمروذ : لا أستطيع ترك ملكي ، ولكن سوف أذبحها له ، ثم ذبحها له وكف عن إبراهيم عليه السلام ، ورويت هذه القصة على وجه آخر ، وهي أنهم بنوا لإبراهيم بنيانا وألقوه فيه ، ثم أوقدوا عليه النار سبعة أيام ، ثم أطبقوا عليه ، ثم فتحوا عليه من الغد ، فإذا هو غير محترق يعرق عرقا ، فقال لهم هاران أبو لوط : إن النار لا تحرقه لأنه سحر النار ، ولكن اجعلوه على شيء وأوقدوا تحته فإن الدخان يقتله ، فجعلوه فوق بئر وأوقدوا تحته ، فطارت شرارة فوقعت في لحية أبي لوط فأحرقته .
المسألة الثالثة : إنما اختاروا لأنها أشد العقوبات ، ولهذا قيل : ( المعاقبة بالنار إن كنتم فاعلين ) أي إن كنتم تنصرون آلهتكم نصرا شديدا ، فاختاروا أشد العقوبات وهي الإحراق .