ثم قال : ( توفني مسلما وألحقني بالصالحين ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أن النبي عليه الصلاة والسلام حكى عن جبريل عليه السلام ، عن رب العزة أنه قال : " " فلهذا المعنى من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين ، فههنا من أراد الدعاء فلا بد وأن يقدم عليه ذكر الثناء على الله يوسف عليه السلام لما أراد أن يذكر الدعاء قدم عليه الثناء وهو قوله : ( رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السماوات والأرض ) ، ثم ذكر عقيبه الدعاء وهو قوله : ( توفني مسلما وألحقني بالصالحين ) ، ونظيره ما فعله الخليل صلوات الله عليه في قوله : ( الذي خلقني فهو يهدين ) ( الشعراء : 78 ) ، من هنا إلى قوله : ( رب هب لي حكما ) ( الشعراء : 83 ) ثناء على الله ، ثم قوله : ( رب هب لي ) إلى آخر الكلام دعاء ، فكذا ههنا .
المسألة الثانية : اختلفوا في أن قوله : ( توفني مسلما ) هل هو طلب منه للوفاة أم لا ؟ فقال قتادة : سأل ربه اللحوق به ولم يتمن نبي قط الموت قبله ، وكثير من المفسرين على هذا القول ، وقال رضي [ ص: 175 ] الله عنهما : في رواية ابن عباس عطاء يريد : إذا توفيتني فتوفني على دين الإسلام ، فهذا طلب لأن يجعل الله وفاته على الإسلام ، وليس فيه ما يدل على أنه طلب الوفاة .
واعلم أن اللفظ صالح للأمرين ، ولا يبعد في الرجل العاقل إذا كمل عقله أن يتمنى الموت ويعظم رغبته فيه لوجوه كثيرة منها : أن كمال النفس الإنسانية على ما بيناه في أن يكون عالما بالإلهيات ، وفي أن يكون ملكا ومالكا متصرفا في الجسمانيات ، وذكرنا أن مراتب التفاوت في هذين النوعين غير متناهية ، والكمال المطلق فيهما ليس إلا لله ، وكل ما دون ذلك فهو ناقص ، والناقص إذا حصل له شعور بنقصانه وذاق لذة الكمال المطلق ؛ بقي في القلق وألم الطلب ، وإذا كان الكمال المطلق ليس إلا لله ، وما كان حصوله للإنسان ممتنعا لزم أن يبقى الإنسان أبدا في قلق الطلب وألم التعب ، فإذا عرف الإنسان هذه الحالة عرف أنه لا سبيل له إلى دفع هذا التعب عن النفس إلا بالموت ، فحينئذ يتمنى الموت .
والسبب الثاني : لتمني الموت أن الخطباء والبلغاء وإن أطنبوا في مذمة الدنيا إلا أن حاصل كلامهم يرجع إلى أمور ثلاثة :
أحدها : أن هذه السعادات سريعة الزوال ، مشرفة على الفناء ، والألم الحاصل عند زوالها أشد من اللذة الحاصلة عند وجدانها .
وثانيها : أنها غير خالصة بل هي ممزوجة بالمنغصات والمكدرات .
وثالثها : أن الأراذل من الخلق يشاركون الأفاضل فيها ، بل ربما كان حصة الأراذل أعظم بكثير من حصة الأفاضل ، فهذه الجهات الثلاثة منفرة عن هذه اللذات ، ولما عرف العاقل أنه لا سبيل إلى تحصيل هذه اللذات إلا مع هذه الجهات الثلاثة المنفرة ، لا جرم يتمنى الموت ليتخلص عن هذه الآفات .
والسبب الثالث : وهو الأقوى عند المحققين رحمهم الله أجمعين أن هذه اللذات الجسمانية لا حقيقة لها ، وإنما حاصلها دفع الآلام ، فلذة الأكل عبارة عن دفع ألم الجوع ، ولذة الوقاع عبارة عن دفع الألم الحاصل بسبب الدغدغة المتولدة من حصول المني في أوعية المني .
ولذة الإمارة والرياسة عبارة عن دفع الألم الحاصل بسبب شهوة الانتقام وطلب الرياسة ، وإذا كان حاصل هذه اللذات ليس إلا دفع الألم لا جرم صارت عند العقلاء حقيرة خسيسة نازلة ناقصة ، وحينئذ يتمنى الإنسان الموت ليتخلص عن الاحتياج إلى هذه الأحوال الخسيسة .
والسبب الرابع : أن مداخل اللذات الدنيوية قليلة ، وهي ثلاثة أنواع : لذة الأكل ، ولذة الوقاع ، ولذة الرياسة ، ولكل واحدة منها عيوب كثيرة .
أما لذة الأكل ففيها عيوب :
أحدها : أن هذه اللذات ليست قوية ، فإن الشعور بألم القولنج الشديد -والعياذ بالله منه- أشد من الشعور باللذة الحاصلة عند أكل الطعام .
وثانيها : أن هذه اللذة لا يمكن بقاؤها ، فإن الإنسان إذا أكل شبع ، وإذا شبع لم يبق شوقه للالتذاذ بالأكل ، فهذه اللذة ضعيفة ، ومع ضعفها غير باقية .
وثالثها : أنها في نفسها خسيسة ، فإن الأكل عبارة عن ترطيب ذلك الطعام بالبزاق المجتمع في الفم ، ولا شك أنه شيء منفر مستقذر ، ثم لما يصل إلى المعدة تظهر فيه الاستحالة إلى الفساد والنتن والعفونة ، وذلك أيضا منفر .
ورابعها : أن جميع الحيوانات الخسيسة مشاركة فيها ، فإن الروث في مذاق الجعل كاللوزينج في مذاق الإنسان ، وكما أن الإنسان يكره تناول غذاء الجعل ، فكذلك الجعل يكره تناول غذاء الإنسان ، وأما اللذة فمشتركة فيما بين الناس .
وخامسها : أن الأكل إنما يطيب عند اشتداد الجوع ، وتلك حاجة شديدة ، والحاجة نقص وافر .
وسادسها : أن الأكل يستحقر عند العقلاء ، قيل : ، فهذا هو الإشارة المختصرة في معايب الأكل . من كانت همته ما [ ص: 176 ] يدخل في بطنه فقيمته ما يخرج من بطنه
وأما لذة النكاح ، فكل ما ذكرناه في الأكل حاصل ههنا مع أشياء أخرى ، وهي أن النكاح سبب لحصول الولد ، وحينئذ تكثر الأشخاص ، فتكثر الحاجة إلى المال ، فيحتاج الإنسان بسببها إلى الاحتيال في طلب المال بطرق لا نهاية لها ، وربما صار هالكا بسبب طلب المال ، وأما لذة الرياسة فعيوبها كثيرة ، والذي نذكره ههنا بسبب واحد ، وهو أن كل أحد يكره بالطبع أن يكون خادما مأمورا ، ويحب أن يكون مخدوما آمرا ، فإذا سعى الإنسان في أن يصير رئيسا آمرا كان ذلك دالا على مخالفة كل ما سواه ، فكأنه ينازع كل الخلق في ذلك ، وهو يحاول تحصيل تلك الرياسة ، وجميع أهل الشرق والغرب يحاولون إبطاله ودفعه ، ولا شك أن كثرة الأسباب توجب قوة حصول الأثر ، وإذا كان كذلك كان حصول هذه الرياسة كالمتعذر ، ولو حصل فإنه يكون على شرف الزوال في كل حين وأوان بكل سبب من الأسباب ، وكان صاحبها عند حصولها في الخوف الشديد من الزوال ، وعند زوالها في الأسف العظيم والحزن الشديد بسبب ذلك الزوال .
واعلم أن العاقل إذا تأمل هذه المعاني علم قطعا أنه لا صلاح له في طلب هذه اللذات والسعي في هذه الخيرات البتة ، ثم إن النفس خلقت مجبولة على طلبها ، والعشق الشديد عليها ، والرغبة التامة في الوصول إليها ، وحينئذ ينعقد ههنا قياف ، وهو أن الإنسان ما دام يكون في هذه الحياة الجسمانية فإنه يكون طالبا لهذه اللذات ، وما دام يطلبها كان في عين الآفات وفي لجة الحسرات ، وهذا اللازم مكروه فالملزوم أيضا مكروه ، فحينئذ يتمنى زوال هذه الحياة الجسمانية ، والسبب في الأمور المرغبة في الموت أن موجبات هذه اللذة الجسمانية متكررة ، ولا يمكن الزيادة عليها ، والتكرير يوجب الملالة ، أما سعادات الآخرة فهي أنواع كثيرة غير متناهية .
قال الإمام فخر الدين الرازي رحمة الله عليه ، وهو مصنف هذا الكتاب أنار الله برهانه : أنا صاحب هذه الحالة والمتوغل فيها ، ولو فتحت الباب وبالغت في عيوب هذه اللذات الجسمانية فربما كتبت المجلدات ، وما وصلت إلى القليل منها ، فلهذا السبب صرت مواظبا في أكثر الأوقات على ذكر هذا الذي ذكره يوسف عليه السلام وهو قوله : ( رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السماوات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين ) .
المسألة الثالثة : تمسك أصحابنا في بيان أن الإيمان من الله تعالى بقوله : ( توفني مسلما ) ، وتقريره أن تحصيل الإسلام ، وإبقاءه إذا كان من العبد كان طلبه من الله فاسدا ، وتقريره كأنه يقول : افعل يا من لا يفعل ، والمعتزلة أبدا يشنعون علينا ويقولون : إذا كان الفعل من الله فكيف يجوز أن يقال للعبد : افعل ؛ مع أنك لست فاعلا ؟ فنحن نقول ههنا أيضا : إذا كان تحصيل الإيمان وإبقاؤه من العبد لا من الله تعالى ، فكيف يطلب ذلك من الله ؟ قال الجبائي والكعبي : معناه : اطلب اللطف لي في الإقامة على الإسلام إلى أن أموت عليه .
فهذا الجواب ضعيف ؛ لأن السؤال وقع على الإسلام ، فحمله على اللطف عدول عن الظاهر ، وأيضا كل ما في المقدور من الألطاف فقد فعله ، فكان طلبه من الله محالا .
المسألة الرابعة : لقائل أن يقول : الأنبياء عليهم السلام يعلمون أنهم يموتون لا محالة على الإسلام ، فكان هذا الدعاء حاصله طلب تحصيل الحاصل ، وأنه لا يجوز . [ ص: 177 ]
والجواب : أحسن ما قيل فيه أن على وجه يستقر قلبه على ذلك الإسلام ويرضى بقضاء الله وقدره ، ويكون مطمئن النفس منشرح الصدر منفسح القلب في هذا الباب ، وهذه الحالة زائدة على الإسلام الذي هو ضد الكفر ، فالمطلوب ههنا هو الإسلام بهذا المعنى . كمال حال المسلم أن يستسلم لحكم الله تعالى
المسألة الخامسة : أن يوسف عليه السلام كان من أكابر الأنبياء عليهم السلام ، والصلاح أول درجات المؤمنين ، فالواصل إلى الغاية كيف يليق به أن يطلب البداية . قال رضي الله عنهما وغيره من المفسرين : يعني بآبائه ابن عباس إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ، والمعنى : ألحقني بهم في ثوابهم ومراتبهم ودرجاتهم ، وههنا مقام آخر من تفسير هذه الآية على لسان أصحاب المكاشفات ، وهو أن النفوس المفارقة إذا أشرقت بالأنوار الإلهية واللوامع القدسية ، فإذا كانت متناسبة متشاكلة انعكس النور الذي في كل واحدة منها إلى الأخرى بسبب تلك الملازمة والمجانسة ، فتعظم تلك الأنوار وتقوى تلك الأضواء ، ومثال تلك الأحوال المرآة الصقيلة الصافية إذا وضعت وضعا متى أشرقت الشمس عليها انعكس الضوء من كل واحدة منها إلى الأخرى ، فهناك يقوى الضوء ويكمل النور ، وينتهي في الإشراق والبريق واللمعان إلى حد لا تطيقه العيون والأبصار الضعيفة ، فكذا ههنا .