قوله تعالى : ( وتولى عنهم وقال ياأسفى على يوسف وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم قالوا تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين قال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون يابني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييئس من روح الله إلا القوم الكافرون ) [ ص: 154 ]
واعلم أن يعقوب عليه السلام لما سمع كلام أبنائه ضاق قلبه جدا ، وأعرض عنهم وفارقهم ثم بالآخرة طلبهم وعاد إليهم .
أما المقام الأول : وهو أنه أعرض عنهم ، وفر منهم فهو قوله : ( وتولى عنهم وقال ياأسفى على يوسف ) .
واعلم أنه لما ضاق صدره بسبب الكلام الذي سمعه من أبنائه في حق بنيامين عظم أسفه على يوسف عليه السلام : ( وقال ياأسفى على يوسف ) وإنما يوسف عند هذه الواقعة لوجوه : عظم حزنه على مفارقة
الوجه الأول : أن الحزن الجديد يقوي الحزن القديم الكامن ، والقدح إذا وقع على القدح كان أوجع .
وقال متمم بن نويرة :
وقد لامني عند القبور على البكا رفيقي لتذراف الدموع السوافك فقال أتبكي كل قبر رأيته
لقبر ثوى بين اللوى والدكادك فقلت له إن الأسى يبعث الأسى
فدعني فهذا كله قبر مالك
وذلك لأنه إذا رأى قبرا فتجدد حزنه على أخيه مالك فلاموه عليه ، فأجاب بأن الأسى يبعث الأسى . وقال آخر :
فلم تنسني أوفى المصيبات بعده ولكن نكء القرح بالقرح أوجع
والوجه الثاني : أن بنيامين ويوسف كانا من أم واحدة ، وكانت المشابهة بينهما في الصورة والصفة أكمل ، فكان يعقوب عليه السلام يتسلى برؤيته عن رؤية يوسف عليه السلام ، فلما وقع ما وقع زال ما يوجب السلوة ، فعظم الألم والوجد .
الوجه الثالث : أن يوسف كانت أصل مصائبه التي عليها ترتب سائر المصائب والرزايا ، وكان الأسف عليه أسفا على الكل . المصيبة في
الرابع : أن هذه المصائب الجديدة كانت أسبابها جارية مجرى الأمور التي يمكن معرفتها والبحث عنها .
وأما واقعة يوسف فهو عليه السلام كان يعلم كذبهم في السبب الذي ذكروه ، وأما السبب الحقيقي فما كان معلوما له ، وأيضا أنه عليه السلام كان يعلم أن هؤلاء في الحياة ، وأما يوسف فما كان يعلم أنه حي أو ميت ، فلهذه الأسباب عظم وجده على مفارقته وقويت مصيبته على الجهل بحاله .
المسألة الثانية : من الجهال من عاب يعقوب عليه السلام على قوله : ( ياأسفى على يوسف ) قال : لأن هذا إظهار للجزع وجار مجرى وأنه لا يجوز ، والعلماء بينوا أنه ليس الأمر كما ظنه هذا الجاهل ، وتقريره أنه عليه السلام لم يذكر هذه الكلمة ثم عظم بكاؤه ، وهو المراد من قوله : ( الشكاية من الله وابيضت عيناه من الحزن ) ثم أمسك لسانه عن النياحة وذكر ما لا ينبغي ، وهو المراد من قوله : ( فهو كظيم ) ثم إنه ما أظهر الشكاية مع أحد من الخلق بدليل قوله : ( إنما أشكو بثي وحزني إلى الله ) وكل ذلك يدل على أنه لما عظمت مصيبته وقويت محنته ؛ فإنه صبر وتجرع الغصة وما أظهر الشكاية ، فلا جرم استوجب به المدح العظيم والثناء العظيم .
روي أن يوسف عليه السلام سأل جبريل : هل لك علم بيعقوب ؟ قال : نعم ، قال : وكيف حزنه ؟ [ ص: 155 ] قال : حزن سبعين ثكلى ، وهي التي لها ولد واحد ثم يموت .
قال : فهل له فيه أجر ؟ قال : نعم . أجر مائة شهيد .
فإن قيل : روي عن ، قال : ( مر محمد بن علي الباقر بيعقوب شيخ كبير ، فقال له : أنت إبراهيم ؟ فقال : أنا ابن ابنه ، والهموم غيرتني وذهبت بحسني وقوتي ، فأوحى الله تعالى إليه : "حتى متى تشكوني إلى عبادي ، وعزتي وجلالي لو لم تشكني لأبدلتك لحما خيرا من لحمك ودما خيرا من دمك ) فكان من بعد يقول : إنما أشكو بثي وحزني إلى الله ، وعن النبي- صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ليعقوب أخ مواخ ، فقال له : ما الذي أذهب بصرك وقوس ظهرك ؟ فقال : الذي أذهب بصري البكاء على يوسف ، وقوس ظهري الحزن على بنيامين ، فأوحى الله تعالى إليه : أما تستحي تشكوني إلى غيري ! فقال : إنما أشكو بثي وحزني إلى الله ، فقال : يا رب أما ترحم الشيخ الكبير ، قوست ظهري ، وأذهبت بصري ، فاردد علي ريحانتي يوسف وبنيامين ؛ فأتاه جبريل عليه السلام بالبشرى وقال : لو كانا ميتين لنشرتهما لك ؛ فاصنع طعاما للمساكين ، فإن أحب عبادي إلي الأنبياء والمساكين ، وكان يعقوب عليه السلام إذا أراد الغداء نادى مناديه : من أراد الغداء فليتغد مع يعقوب ، وإذا كان صائما نادى مثله عند الإفطار . كان
وروي أنه كان يرفع حاجبيه بخرقة من الكبر ، فقال له رجل : ما هذا الذي أراه بك ؟ قال : طول الزمان وكثرة الأحزان ، فأوحى الله إليه : أتشكوني يا يعقوب ؟ فقال : يا رب خطيئة أخطأتها ؛ فاغفرها لي .
قلنا : إنا قد دللنا على أنه لم يأت إلا بالصبر والثبات وترك النياحة . وروي أن ملك الموت دخل على يعقوب عليه السلام فقال له : جئت لتقبضني قبل أن أرى حبيبي ؟ فقال : لا ، ولكن جئت لأحزن لحزنك وأشجو لشجوك ، وأما البكاء فليس من المعاصي .
وروي أن النبي -عليه الصلاة والسلام - بكى على ولده إبراهيم عليه السلام ، وقال : إبراهيم لمحزونون . إن القلب ليحزن ، والعين تدمع ، ولا نقول ما يسخط الرب ، وإنا عليك يا
وأيضا فاستيلاء الحزن على الإنسان ليس باختياره ، فلا يكون ذلك داخلا تحت التكليف ، وأما التأوه وإرسال البكاء فقد يصير بحيث لا يقدر على دفعه ، وأما ما ورد في الروايات التي ذكرتم فالمعاتبة فيها إنما كانت لأجل أن . حسنات الأبرار سيئات المقربين
وأيضا ففيه دقيقة أخرى وهي أن ، الإنسان إذا كان في موضع التحير والتردد لا بد وأن يرجع إلى الله تعالى فيعقوب عليه السلام ما كان يعلم أن يوسف بقي حيا أم صار ميتا ، فكان متوقفا فيه وبسبب توقفه كان يكثر الرجوع إلى الله تعالى وينقطع قلبه عن الالتفات عن كل ما سوى الله تعالى إلا في هذه الواقعة ، وكان أحواله في هذه الواقعة مختلفة ، فربما صار في بعض الأوقات مستغرق الهم بذكر الله تعالى ، فانيا عن تذكر هذه الواقعة ، فكان ذكرها كلا سواها ، فلهذا السبب صارت هذا الواقعة بالنسبة إليه جارية مجرى الإلقاء في النار للخليل عليه السلام ومجرى الذبح لابنه الذبيح .
فإن قيل : أليس أن الأولى عند نزول المصيبة الشديدة أن يقول : ( إنا لله وإنا إليه راجعون ) حتى يستوجب الثواب العظيم المذكور في قوله : ( أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون ) ( البقرة : 157 ) .
قلنا : قال بعض المفسرين : إنه لم يعط الاسترجاع أمة إلا هذه الأمة فأكرمهم الله تعالى إذا أصابتهم مصيبة .
وهذا عندي ضعيف لأن قوله : ( إنا لله ) إشارة إلى أنا مملوكون لله وهو الذي خلقنا وأوجدنا ، وقوله : ( وإنا إليه راجعون ) إشارة إلى أنه لا بد من الحشر والقيامة ، ومن المحال أن أمة من الأمم لا يعرفون ذلك ، فمن عرف عند نزول بعض المصائب به أنه لا بد في العاقبة من رجوعه إلى الله تعالى ، فهناك تحصل السلوة التامة عند [ ص: 156 ] تلك المصيبة ، ومن المحال أن يكون المؤمن بالله غير عارف بذلك .
المسألة الثالثة : قوله : ( ياأسفى على يوسف ) نداء الأسف وهو كقوله : "يا عجبا" والتقدير كأنه ينادي الأسف ويقول : هذا وقت حصولك وأوان مجيئك وقد قررنا هذا المعنى في مواضع كثيرة منها في تفسير قوله : ( حاش لله ) ( يوسف : 31 ) والأسف الحزن على ما فات .
قال الليث : إذا جاءك أمر فحزنت له ولم تطقه فأنت أسيف أي حزين ومتأسف أيضا .
قال الزجاج : الأصل ( يا أسفي ) إلا أن ياء الإضافة يجوز إبدالها بالألف لخفة الألف والفتحة .