( ارجعوا إلى أبيكم فقولوا يا أبانا إن ابنك سرق وما شهدنا إلا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها وإنا لصادقون ) .
قوله تعالى : ( وما شهدنا إلا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين ارجعوا إلى أبيكم فقولوا يا أبانا إن ابنك سرق واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها وإنا لصادقون ) [ ص: 151 ]
واعلم أنهم لما تفكروا في الأصوب ما هو ظهر لهم أن الأصوب هو الرجوع ، وأن يذكروا لأبيهم كيفية الواقعة على الوجه من غير تفاوت ، والظاهر أن هذا القول قاله ذلك الكبير الذي قال : ( فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي ) قيل : إنه روبيل ، وبقي هو في مصر وبعث سائر إخوته إلى الأب .
فإن قيل : كيف حكموا عليه بأنه سرق من غير بينة ، لا سيما وهو قد أجاب بالجواب الشافي ، فقال : الذي جعل الصواع في رحلي هو الذي جعل البضاعة في رحلكم .
والجواب عنه من وجوه :
الوجه الأول : أنهم شاهدوا أن الصواع كان موضوعا في موضع ما كان يدخله أحد إلا هم ، فلما شاهدوا أنهم أخرجوا الصواع من رحله ؛ غلب على ظنونهم أنه هو الذي أخذ الصواع .
وأما قوله : وضع الصواع في رحلي من وضع البضاعة في رحالكم ، فالفرق ظاهر ، لأن هناك لما رجعوا بالبضاعة إليهم اعترفوا بأنهم هم الذين وضعوها في رحالهم ، وأما هذا الصواع فإن أحدا لم يعترف بأنه هو الذي وضع الصواع في رحله فظهر الفرق ، فلهذا السبب غلب على ظنونهم أنه سرق ، فشهدوا بناء على هذا الظن ، ثم بين أنهم غير قاطعين بهذا الأمر بقولهم : ( وما شهدنا إلا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين ) .
والوجه الثاني : في الجواب أن تقدير الكلام ( إن ابنك سرق ) في قول الملك وأصحابه ، ومثله كثير في القرآن .
قال تعالى : ( إنك لأنت الحليم الرشيد ) ( هود : 87 ) أي عند نفسك ، وقال تعالى : ( ذق إنك أنت العزيز الكريم ) ( الدخان : 49 ) أي عند نفسك ، وأما عندنا فلا ، فكذا ههنا .
الوجه الثالث : في الجواب أن ابنك ظهر عليه ما يشبه السرقة ، ومثل هذا الشيء يسمى سرقة ، فإن جائز في القرآن ، قال تعالى : ( إطلاق اسم أحد الشبيهين على الشبيه الآخر وجزاء سيئة سيئة مثلها ) ( الشورى : 40 ) .
الوجه الرابع : أن القوم ما كانوا أنبياء في ذلك الوقت ، فلا يبعد أن يقال : إنهم ذكروا هذا الكلام على سبيل المجازفة لا سيما وقد شاهدوا شيئا يوهم ذلك .
الوجه الخامس : أن رضي الله عنهما كان يقرأ ( إن ابنك سرق ) بالتشديد ، أي نسب إلى السرقة ، فهذه القراءة لا حاجة بها إلى التأويل ؛ لأن القوم نسبوه إلى السرقة ، إلا أنا ذكرنا في هذا الكتاب أن أمثال هذه القراءات لا تدفع السؤال ، لأن الإشكال إنما يدفع إذا قلنا : القراءة الأولى باطلة ، والقراءة الحقة هي هذه ، أما إذا سلمنا أن القراءة الأولى حقة كان الإشكال باقيا سواء صحت هذه القراءة الثانية أو لم تصح ، فثبت أنه لا بد من الرجوع إلى أحد الوجوه المذكورة ، أما قوله : ( ابن عباس وما شهدنا إلا بما علمنا ) فمعناه ظاهر لأنه يدل على أن الشهادة غير العلم بدليل قوله تعالى : ( وما شهدنا إلا بما علمنا ) وذلك يقتضي كون الشهادة مغايرة للعلم ولأنه عليه السلام قال : إذا علمت مثل الشمس فاشهد ، وذلك أيضا يقتضي ما ذكرنا وليست الشهادة أيضا عبارة عن قوله : أشهد ؛ لأن قوله : أشهد إخبار عن الشهادة ، والإخبار عن الشهادة غير الشهادة .
إذا ثبت هذا فنقول : الشهادة عبارة عن الحكم الذهني ، وهو الذي يسميه المتكلمون بكلام النفس .
وأما قوله : ( وما كنا للغيب حافظين ) ففيه وجوه :
الأول : أنا قد رأينا أنهم أخرجوا الصواع من رحله ، وأما حقيقة الحال فغير معلومة لنا ، فإن الغيب لا يعلمه إلا الله .
والثاني : قال عكرمة : معناه : لعل الصواع دس في متاعه [ ص: 152 ] بالليل ، فإن الغيب اسم لليل على بعض اللغات .
والثالث : قال مجاهد والحسن وقتادة : وما كنا نعلم أن ابنك يسرق ، ولو علمنا ذلك ما ذهبنا به إلى الملك وما أعطيناك موثقا من الله في رده إليك .
والرابع : نقل أن يعقوب عليه السلام قال لهم : فهب أنه سرق ولكن كيف عرف الملك أن شرع بني إسرائيل أن من سرق يسترق ؟ بل أنتم ذكرتموه له لغرض لكم ، فقالوا عند هذا الكلام : إنا قد ذكرنا له هذا الحكم قبل وقوعنا في هذه الواقعة ، وما كنا نعلم أن هذه الواقعة نقع فيها ، فقوله : ( وما كنا للغيب حافظين ) إشارة إلى هذا المعنى .
فإن قيل : فهل يجوز من يعقوب عليه السلام أن يسعى في إخفاء حكم الله تعالى على هذا القول ؟
قلنا : لعله كان ذلك الحكم مخصوصا بما إذا كان المسروق منه مسلما فلهذا أنكر ذكر هذا الحكم عند الملك الذي ظنه كافرا .
ثم حكى تعالى عنهم أنهم قالوا : ( واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها ) .
واعلم أنهم لما كانوا متهمين بسبب واقعة يوسف عليه السلام بالغوا في إزالة التهمة عن أنفسهم ، فقالوا : ( واسأل القرية التي كنا فيها ) ، والأكثرون اتفقوا على أن المراد من هذه القرية مصر ، وقال قوم : بل المراد منه قرية على باب مصر جرى فيها حديث السرقة والتفتيش ، ثم فيه قولان :
الأول : إلا أنه حذف المضاف للإيجاز والاختصار ، وهذا النوع من المجاز مشهور في لغة العرب ، قال المراد واسأل أهل القرية أبو علي الفارسي : ودافع جواز هذا في اللغة كدافع الضروريات ، وجاحد المحسوسات .
والثاني : قال : المعنى : اسأل القرية والعير والجدار والحيطان ؛ فإنها تجيبك وتذكر لك صحة ما ذكرناه لأنك من أكابر أنبياء الله فلا يبعد أن ينطق الله هذه الجمادات معجزة لك حتى تخبرك بصحة ما ذكرناه . أبو بكر الأنباري
وفيه وجه ثالث : وهو أن الشيء إذا ظهر ظهورا تاما كاملا فقد يقال فيه : سل السماء والأرض وجميع الأشياء عنه ، والمراد أنه بلغ في الظهور إلى الغاية التي ما بقي للشك فيه مجال .
أما قوله : ( والعير التي أقبلنا فيها ) فقال المفسرون : كان قد صحبهم قوم من الكنعانيين فقالوا : سلهم عن هذه الواقعة .
ثم إنهم لما بالغوا في التأكيد والتقرير قالوا : ( وإنا لصادقون ) يعني : سواء نسبتنا إلى التهمة أو لم تنسبنا إليها فنحن صادقون ، وليس غرضهم أن يثبتوا صدق أنفسهم بأنفسهم لأن هذا يجري مجرى إثبات الشيء بنفسه ، بل الإنسان إذا قدم ذكر الدليل القاطع على صحة الشيء فقد يقول بعده : وأنا صادق في ذلك ، يعني : فتأمل فيما ذكرته من الدلائل والبينات لتزول عنك الشبهة .