المسألة الخامسة : قال الليث : التنور لفظة عمت بكل لسان وصاحبه تنار ، قال الأزهري : وهذا يدل على أن ، والدليل على ذلك أن الأصل تنار ولا يعرف في كلام العرب تنور قبل هذا ، ونظيره ما دخل في كلام العرب من كلام العجم الديباج والدينار والسندس والإستبرق ، فإن العرب لما تكلموا بهذه الألفاظ صارت عربية . الاسم قد يكون أعجميا فتعربه العرب فيصير عربيا
واعلم أنه لما فار التنور فعند ذلك أمره الله تعالى بأن يحمل في السفينة ثلاثة أنواع من الأشياء .
فالأول : قوله : ( قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين ) قال الأخفش : تقول : الاثنان هما زوجان ، قال تعالى : ( ومن كل شيء خلقنا زوجين ) [الذاريات : 49] فالسماء زوج والأرض زوج والشتاء زوج والصيف زوج والنهار زوج والليل زوج ، وتقول للمرأة : هي زوج وهو زوجها ، قال تعالى : ( وخلق منها زوجها ) [النساء : 1] يعني المرأة ، وقال : ( وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى ) [النجم : 45] فثبت أن الواحد قد يقال له : زوج ، ومما يدل على ذلك قوله تعالى : ( ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين ) ( ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين ) .
إذا عرفت هذا فنقول : الزوجان عبارة عن كل شيئين يكون أحدهما ذكرا والآخر أنثى ، والتقدير كل شيئين هما كذلك ، فاحمل منهما في السفينة اثنين ، واحد ذكر والآخر أنثى ، ولذلك قرأ حفص : ( من كل ) بالتنوين ، وأرادوا حمل من كل شيء زوجين اثنين ، الذكر زوج والأنثى زوج ، لا يقال عليه : زوجين اثنين ) ؛ لأنا نقول : هذا على مثال قوله : ( إن الزوجين لا يكونان إلا اثنين ، فما الفائدة في قوله : ( لا تتخذوا إلهين اثنين ) [النحل : 51] ، وقوله : ( نفخة واحدة ) [الحاقة : 13] ، وأما على القراءة المشهورة ، فهذا السؤال غير وارد ، واختلفوا في أنه هل دخل في قوله : ( زوجين اثنين ) غير الحيوان أم لا ؟ فنقول : أما الحيوان فداخل ؛ لأن قوله : ( من كل زوجين اثنين ) يدخل فيه كل الحيوانات ، وأما النبات فاللفظ لا يدل عليه ، إلا أنه بحسب قرينة الحال لا يبعد بسبب أن الناس محتاجون إلى النبات بجميع أقسامه ، وجاء في الروايات عن ابن مسعود رضي الله عنهما أنه قال : لم يستطع نوح عليه السلام أن يحمل الأسد حتى ألقيت عليه الحمى ؛ وذلك أن نوحا عليه السلام قال : يا رب ، فمن أين أطعم الأسد إذا حملته ؟ قال تعالى : فسوف أشغله عن الطعام . فسلط الله تعالى عليه الحمى . وأمثال هذه الكلمات الأولى تركها ؛ فإن حاجة الفيل إلى الطعام أكثر وليس به حمى .
الثاني : من الأشياء التي أمر الله نوحا عليه السلام بحملها في السفينة :
[ ص: 182 ] قوله تعالى : ( وأهلك إلا من سبق عليه القول ) قالوا : كانوا سبعة : نوح عليه السلام وثلاثة أبناء له ، وهم : سام ، وحام ، ويافث ، ولكل واحد منهم زوجة ، وقيل أيضا : كانوا ثمانية ؛ هؤلاء وزوجة نوح عليه السلام .
وأما قوله : ( إلا من سبق عليه القول ) ، فالمراد ابنه وامرأته ، وكانا كافرين ، حكم الله تعالى عليهم بالهلاك .
فإن قيل : الإنسان أشرف من جميع الحيوانات ، فما السبب أنه وقع الابتداء بذكر الحيوانات ؟
قلنا : الإنسان عاقل ، وهو لعقله كالمضطر إلى دفع أسباب الهلاك عن نفسه ، فلا حاجة فيه إلى المبالغة في الترغيب ، بخلاف السعي في تخليص سائر الحيوانات ، فلهذا السبب وقع الابتداء به .
واعلم أن أصحابنا احتجوا بقوله : ( إلا من سبق عليه القول ) في ، قالوا : لأن قوله : ( إثبات القضاء اللازم والقدر الواجب سبق عليه القول ) مشعر بأن كل من سبق عليه القول فإنه لا يتغير عن حاله ، وهو كقوله عليه الصلاة والسلام : " " . السعيد من سعد في بطن أمه ، والشقي من شقي في بطن أمه
النوع الثالث من تلك الأشياء قوله : ( ومن آمن ) قالوا : كانوا ثمانين . قال مقاتل : في ناحية الموصل قرية يقال لها : قرية الثمانين ؛ سميت بذلك لأن هؤلاء لما خرجوا من السفينة بنوها ، فسميت بهذا الاسم ، وذكروا ما هو أزيد منه وما هو أنقص منه ، وذلك مما لا سبيل إلى معرفته إلا أن الله تعالى وصفهم بالقلة ، وهو قوله تعالى : ( وما آمن معه إلا قليل ) .
فإن قيل : لما كان الذين آمنوا معه ودخلوا في السفينة كانوا جماعة فلم لم يقل : قليلون كما في قوله : ( إن هؤلاء لشرذمة قليلون ) [الشعراء : 54] .
قلنا : كلا اللفظين جائز ، والتقدير ههنا : وما آمن معه إلا نفر قليل ، فأما الذي يروى أن إبليس دخل السفينة فبعيد ؛ لأنه من الجن ، وهو جسم ناري أو هوائي ، وكيف يؤثر الغرق فيه ، وأيضا كتاب الله تعالى لم يدل عليه ، وخبر صحيح ما ورد فيه ، فالأولى ترك الخوض فيه .