[ ص: 103 ] وأما قوله : ( الذين آمنوا وكانوا يتقون ) ففيه ثلاثة أوجه :
الأول : النصب بكونه صفة للأولياء .
والثاني : النصب على المدح .
والثالث : الرفع على الابتداء وخبره لهم البشرى .
وأما قوله تعالى : ( لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة ) ففيه أقوال :
الأول : المراد منه الرؤيا الصالحة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : أنه قال : " " وعنه عليه الصلاة والسلام : " البشرى هي الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له " وعنه عليه الصلاة والسلام : " ذهبت النبوة وبقيت المبشرات ، الرؤيا الصالحة من الله ، فإذا حلم أحدكم حلما يخافه فليتعوذ منه وليبصق عن شماله ثلاث مرات فإنه لا يضره والحلم من الشيطان " وعنه - صلى الله عليه وسلم - : " الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزء من النبوة " وعن ابن مسعود : الرؤيا ثلاثة : الهم يهم به الرجل من النهار فيراه في الليل ، وحضور الشيطان ، والرؤيا التي هي الرؤيا الصادقة .
وعن إبراهيم الرؤيا ثلاثة : فالمبشرة من الله جزء من سبعين جزءا من النبوة ، والشيء يهم به أحدكم بالنهار فلعله يراه بالليل ، والتخويف من الشيطان ، فإذا رأى أحدكم ما يحزنه فليقل : أعوذ بما عاذت به ملائكة الله من شر رؤياي التي رأيتها أن تضرني في دنياي أو في آخرتي .
واعلم أنا إذا حملنا قوله : ( لهم البشرى ) على الرؤيا الصادقة فظاهر هذا النص يقتضي أن لا تحصل هذه الحالة إلا لهم ، والعقل أيضا يدل عليه ، وذلك لأن ولي الله هو الذي يكون مستغرق القلب والروح بذكر الله ، ومن كان كذلك فهو عند النوم لا يبقى في روحه إلا معرفة الله ، ومن المعلوم أن معرفة الله ونور جلال الله لا يفيده إلا الحق والصدق ، وأما من يكون متوزع الفكر على أحوال هذا العالم الكدر المظلم ، فإنه إذا نام يبقى كذلك ، فلا جرم لا اعتماد على رؤياه ، فلهذا السبب قال : ( لهم البشرى في الحياة الدنيا ) على سبيل الحصر والتخصيص .
القول الثاني : في ، أنها عبارة عن محبة الناس له وعن ذكرهم إياه بالثناء الحسن ; عن تفسير البشرى أبي ذر قال : . قلت : يا رسول الله إن الرجل يعمل العمل لله ويحبه الناس ! فقال : " تلك عاجل بشرى المؤمن "
واعلم أن المباحث العقلية تقوي هذا المعنى ، وذلك أن الكمال محبوب لذاته لا لغيره ، وكل من اتصف بصفة من صفات الكمال ، صار محبوبا لكل أحد ، ولا كمال للعبد أعلى وأشرف من كونه مستغرق القلب بمعرفة الله ، مستغرق اللسان بذكر الله ، مستغرق الجوارح والأعضاء بعبودية الله ، فإذا ظهر عليه أمر من هذا الباب ، صارت الألسنة جارية بمدحه ، والقلوب مجبولة على حبه ، وكلما كانت هذه الصفات الشريفة أكثر ، كانت هذه المحبة أقوى ، وأيضا فنور معرفة الله مخدوم بالذات ، ففي أي قلب حضر صار ذلك الإنسان مخدوما بالطبع ، ألا ترى أن البهائم والسباع قد تكون أقوى من الإنسان ، ثم إنها إذا شاهدت الإنسان هابته وفرت منه وما ذاك إلا لمهابة النفس الناطقة .
والقول الثالث : في تفسير البشرى أنها عبارة عن قال تعالى : ( حصول البشرى لهم عند الموت تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة ) [ فصلت : 30 ] وأما البشرى في الآخرة فسلام الملائكة عليهم كما قال تعالى : ( والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم ) [ الرعد : 23 ] وسلام الله عليهم كما قال : ( سلام قولا من رب رحيم ) [ يس : 58 ] ويندرج في هذا الباب ما ذكره الله في هذا الكتاب [ ص: 104 ] الكريم من بياض وجوههم وإعطاء الصحائف بأيمانهم ، وما يلقون فيها من الأحوال السارة ، فكل ذلك من المبشرات .
والقول الرابع : أن ذلك عبارة في كتابه وعلى ألسنة أنبيائه من جنته وكريم ثوابه . ودليله قوله : ( عما بشر الله عباده المتقين يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان ) [ التوبة : 21 ] .
واعلم أن لفظ البشارة مشتق من خبر سار يظهر أثره في بشرة الوجه ، فكل ما كان كذلك دخل في هذه الآية ، ومجموع الأمور المذكورة مشتركة في هذه الصفة ، فيكون الكل داخلا فيه فكل ما يتعلق من هذه الوجوه بالدنيا فهو داخل تحت قوله : ( لهم البشرى في الحياة الدنيا ) وكل ما يتعلق بالآخرة فهو داخل تحت قوله : ( وفي الآخرة ) ثم إنه تعالى لما ذكر قال تعالى : ( صفة أولياء الله وشرح أحوالهم لا تبديل لكلمات الله ) والمراد أنه لا خلف فيها ، والكلمة والقول سواء ، ونظيره قوله : ( ما يبدل القول لدي ) [ ق : 29 ] وهذا أحد ما يقوي أن المراد بالبشرى وعد الله بالثواب والكرامة لمن أطاعه بقوله : ( يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان ) ثم بين تعالى أن : ( ذلك هو الفوز العظيم ) وهو كقوله تعالى : ( وإذا رأيت ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا ) [ الإنسان : 20 ] ثم قال القاضي : قوله : ( لا تبديل لكلمات الله ) يدل على أنها قابلة للتبديل ، وكل ما قبل العدم امتنع أن يكون قديما . ونظير هذا الاستدلال بحصول النسخ على أن حكم الله تعالى لا يكون قديما وقد سبق الكلام على أمثال هذه الوجوه .