قوله تعالى : ( مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون )
اعلم أنا قبل الخوض في تفسير ألفاظ هذه الآية نتكلم في شيئين : أحدها : أن أنها تؤثر في القلوب ما لا يؤثره وصف الشيء في نفسه ؛ وذلك لأن الغرض من المثل تشبيه الخفي بالجلي ، والغائب بالشاهد ، فيتأكد الوقوف على ماهيته ، ويصير الحس مطابقا للعقل وذلك في نهاية الإيضاح ، ألا ترى أن الترغيب إذا وقع في الإيمان مجردا عن ضرب مثل له لم يتأكد وقوعه في القلب كما يتأكد وقوعه إذا مثل بالنور ، وإذا زهد في الكفر بمجرد الذكر لم يتأكد قبحه في العقول كما يتأكد إذا مثل بالظلمة ، وإذا أخبر بضعف أمر من الأمور ، وضرب مثله بنسج العنكبوت كان ذلك أبلغ في تقرير صورته من الإخبار بضعفه مجردا ، ولهذا أكثر الله تعالى في كتابه المبين وفي سائر كتبه أمثاله ، قال تعالى : ( المقصود من ضرب الأمثال وتلك الأمثال نضربها للناس ) [العنكبوت : 43] ومن سور الإنجيل سورة الأمثال ، وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : المثل في أصل كلامهم بمعنى المثل وهو النظير ، ويقال مثل ومثل ومثيل كشبه وشبه وشبيه ، ثم قيل للقول السائر الممثل مضربه بمورده : مثل ، وشرطه أن يكون قولا فيه غرابة من بعض الوجوه .
[ ص: 67 ] المسألة الثانية : أنه تعالى لما بين حقيقة صفات المنافقين عقبها بضرب مثلين زيادة في الكشف والبيان . أحدهما : هذا المثل وفيه إشكالات . أحدها : أن يقال : ما . وجه التمثيل بمن أعطي نورا ثم سلب ذلك النور منه مع أن المنافق ليس له نور؟
وثانيها : أن يقال : إن من استوقد نارا فأضاءت قليلا فقد انتفع بها وبنورها ثم حرم ، فأما المنافقون فلا انتفاع لهم ألبتة بالإيمان فما وجه التمثيل ؟ .
وثالثها : أن مستوقد النار قد اكتسب لنفسه النور ، والله تعالى ذهب بنوره وتركه في الظلمات ، والمنافق لم يكتسب خيرا وما حصل له من الخيبة والحيرة فقد أتى فيه من قبل نفسه ، فما وجه التشبيه ؟ .
والجواب : أن العلماء ذكروا في كيفية التشبيه وجوها :
أحدها : قال السدي : إن ناسا دخلوا في الإسلام عند وصوله عليه السلام إلى المدينة ثم إنهم نافقوا ، والتشبيه ههنا في نهاية الصحة ؛ لأنهم بإيمانهم أولا اكتسبوا نورا ثم بنفاقهم ثانيا أبطلوا ذلك النور ووقعوا في حيرة عظيمة فإنه لا حيرة أعظم من حيرة الدين ؛ لأن المتحير في طريقه لأجل الظلمة لا يخسر إلا القليل من الدنيا ، وأما المتحير في الدين فإنه يخسر نفسه في الآخرة أبد الآبدين .
وثانيها : إن لم يصح ما قاله السدي بل كانوا منافقين أبدا من أول أمرهم فههنا تأويل آخر ذكره الحسن رحمه الله ، وهو أنهم لما أظهروا الإسلام فقد ظفروا بحقن دمائهم وسلامة أموالهم عن الغنيمة وأولادهم عن السبي وظفروا بغنائم الجهاد وسائر أحكام المسلمين ، وعد ذلك نورا من أنوار الإيمان ، ولما كان ذلك بالإضافة إلى العذاب الدائم قليلا قدرت شبههم بمستوقد النار الذي انتفع بضوئها قليلا ثم سلب ذلك فدامت حيرته وحسرته للظلمة التي جاءته في أعقاب النور ، فكان يسير انتفاعهم في الدنيا يشبه النور ، وعظيم ضررهم في الآخرة يشبه الظلمة .
وثالثها : أن نقول : ليس وجه التشبيه أن للمنافق نورا ، بل وجه التشبيه بهذا المستوقد أنه لما زال النور عنه تحير ، والتحير فيمن كان في نور ثم زال عنه أشد من تحير سالك الطريق في ظلمة مستمرة ، لكنه تعالى ذكر النور في مستوقد النار لكي يصح أن يوصف بهذه الظلمة الشديدة ، لا أن وجه التشبيه مجمع النور والظلمة .
ورابعها : أن الذي أظهروه يوهم أنه من باب النور الذي ينتفع به ، وذهاب النور هو ما يظهره لأصحابه من الكفر والنفاق ، ومن قال بهذا قال إن المثل إنما عطف على قوله : ( وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم ) فالنار مثل لقولهم : " آمنا " وذهابه مثل لقولهم للكفار : " إنا معكم " فإن قيل : وكيف صار ما يظهره المنافق من كلمة الإيمان مثلا بالنور وهو حين تكلم بها أضمر خلافها ؟ قلنا إنه لو ضم إلى القول اعتقادا له وعملا به لأتم النور لنفسه ، ولكنه لما لم يفعل لم يتم نوره ، وإنما سمى مجرد ذلك القول نورا ؛ لأنه قول حق في نفسه .
وخامسها : يجوز أن يكون استيقاد النار عبارة عن إظهار المنافق كلمة الإيمان وإنما سماه نورا لأنه يتزين به ظاهره فيهم ويصير ممدوحا بسببه فيما بينهم ، ثم إن الله تعالى يذهب ذلك النور بهتك ستر المنافق بتعريف نبيه والمؤمنين حقيقة أمره فيظهر له اسم النفاق بدل ما يظهر منه من اسم الإيمان فبقي في ظلمات لا يبصر ، إذ النور الذي كان له قبل قد كشف الله أمره فزال .
وسادسها : أنهم لما وصفوا بأنهم اشتروا الضلالة بالهدى عقب ذلك بهذا التمثيل ليمثل هداهم الذي باعوه بالنار المضيئة ما حول المستوقد ، والضلالة التي اشتروها وطبع بها على قلوبهم بذهاب الله بنورهم وتركه إياهم في الظلمات .
وسابعها : يجوز أن يكون المستوقد ههنا مستوقد نار لا يرضاها الله تعالى ، والغرض تشبيه الفتنة التي حاول المنافقون إثارتها بهذه النار ، فإن الفتنة التي كانوا يثيرونها كانت قليلة البقاء ، ألا ترى إلى قوله تعالى : ( كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ) [المائدة : 64] .
وثامنها : قال : نزلت في اليهود [ ص: 68 ] وانتظارهم لخروج رسول الله صلى الله عليه وسلم واستفتاحهم به على مشركي العرب ، فلما خرج كفروا به فكان انتظارهم سعيد بن جبير لمحمد صلى الله عليه وسلم كإيقاد النار ، وكفرهم به بعد ظهوره كزوال ذلك النور .
المسألة الثالثة : فأما فهو في كتاب الله تعالى كثير ، والوجه فيه أن النور قد بلغ النهاية في كونه هاديا إلى المحجة وإلى طريق المنفعة وإزالة الحيرة ، وهذا حال الإيمان في باب الدين ، فشبه ما هو النهاية في إزالة الحيرة ووجدان المنفعة في باب الدين بما هو الغاية في باب الدنيا ، وكذلك القول في تشبيه الكفر بالظلمة ؛ لأن الضال عن الطريق المحتاج إلى سلوكه لا يرد عليه من أسباب الحرمان والتحير أعظم من الظلمة ، ولا شيء كذلك في باب الدين أعظم من الكفر ، فشبه تعالى أحدهما بالآخر ، فهذا هو الكلام فيما هو المقصود الكلي من هذه الآية ، بقيت ههنا أسئلة وأجوبة تتعلق بالتعلق بالتفاصيل : تشبيه الإيمان بالنور والكفر بالظلمة
السؤال الأول : قوله تعالى : ( مثلهم كمثل الذي استوقد نارا ) يقتضي تشبيه مثلهم بمثل المستوقد ، فما مثل المنافقين ومثل المستوقد حتى شبه أحدهما بالآخر ؟ .
والجواب : استعير المثل للقصة أو للصفة إذا كان لها شأن وفيها غرابة ، كأنه قيل : قصتهم العجيبة كقصة الذي استوقد نارا ، وكذا قوله : ( مثل الجنة التي وعد المتقون ) [الرعد : 35] أي فيما قصصنا عليك من العجائب قصة الجنة العجيبة ( ولله المثل الأعلى ) [النحل : 60] أي الوصف الذي له شأن من العظمة والجلالة ، ( مثلهم في التوراة ) [الفتح : 29] أي وصفهم وشأنهم المتعجب منه ، ولما في المثل من معنى الغرابة قالوا : فلان مثله في الخير والشر ، فاشتقوا منه صفة للعجيب الشأن .
السؤال الثاني : كيف مثلت الجماعة بالواحد ؟ .
والجواب من وجوه :
أحدها : أنه يجوز في اللغة وضع " الذي " موضع " الذين " كقوله : ( وخضتم كالذي خاضوا ) [التوبة : 69] وإنما جاز ذلك ؛ لأن " الذي " لكونه وصلة إلى وصف كل معرفة مجملة ، وكثرة وقوعه في كلامهم ، ولكونه مستطالا بصلته فهو حقيق بالتخفيف ، ولذلك أعلوه بالحذف فحذفوا ياءه ثم كسرته ثم اقتصروا فيه على اللام وحدها في أسماء الفاعلين والمفعولين .
وثانيها : أن يكون المراد جنس المستوقدين أو أريد الجمع أو الفوج الذي استوقد نارا .
وثالثها : وهو الأقوى : أن المنافقين وذواتهم لم يشبهوا بذات المستوقد حتى يلزم منه تشبيه الجماعة بالواحد ، وإنما شبهت قصتهم بقصة المستوقد ، ومثله قوله تعالى : ( مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار ) [الجمعة : 5] وقوله : ( ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت ) [محمد : 20] .
ورابعها : المعنى : ومثل كل واحد منهم كقوله : ( يخرجكم طفلا ) [غافر : 67] أي يخرج كل واحد منكم .
السؤال الثالث : ما الوقود ؟ وما النار ؟ وما الإضاءة ؟ وما النور ؟ ما الظلمة ؟ .
الجواب : أما وقود النار فهو سطوعها وارتفاع لهبها ، وأما النار فهو جوهر لطيف مضيء ، حار محرق ، واشتقاقها من " نار ينور " إذا نفر ؛ لأن فيها حركة واضطرابا ، والنور مشتق منها وهو ضوؤها ، والمنار العلامة ، والمنارة هي الشيء الذي يؤذن عليه .
ويقال أيضا للشيء الذي يوضع السراج عليه ، ومنه النورة لأنها تطهر البدن والإضاءة فرط الإنارة ، ومصداق ذلك قوله تعالى : ( هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا ) [يونس : 5] و " أضاء " يرد لازما ومتعديا ، تقول : أضاء القمر الظلمة ، وأضاء القمر بمعنى استضاء ، قال الشاعر :
[ ص: 69 ]
أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم دجى الليل حتى نظم الجزع ثاقبه
وأما ما حول الشيء فهو الذي يتصل به ، تقول دار حوله وحواليه ، والحول السنة لأنها تحول ، وحال عن العهد أي تغير ، وحال لونه أي تغير لونه ، والحوالة انقلاب الحق من شخص إلى شخص ، والمحاولة طلب الفعل بعد أن لم يكن طالبا له ، والحول انقلاب العين ، والحول الانقلاب ، قال الله تعالى : ( لا يبغون عنها حولا ) [الكهف : 108] والظلمة عدم النور عما من شأنه أن يستنير ، والظلمة في أصل اللغة عبارة عن النقصان قال الله تعالى : ( آتت أكلها ولم تظلم منه شيئا ) [الكهف : 33] أي لم تنقص وفي المثل : من أشبه أباه فما ظلم ، أي فما نقص حق الشبه ، والظلم الثلج ؛ لأنه ينتقص سريعا ، والظلم ماء السن وطراوته وبياضه تشبيها له بالثلج .
السؤال الرابع : أضاءت متعدية أم لا ؟ الجواب : كلاهما جائز ، يقال : أضاءت النار بنفسها وأضاءت غيرها ، وكذلك أظلم الشيء بنفسه وأظلم غيره أي صيره مظلما ، وههنا الأقرب أنها متعدية ، ويحتمل أن تكون غير متعدية مستندة إلى ما حوله والتأنيث للحمل على المعنى ؛ لأن ما حول المستوقد أماكن وأشياء ، ويعضده قراءة ابن أبي عبلة " ضاء " .
السؤال الخامس : هلا قيل ذهب الله بضوئهم؟ لقوله : ( فلما أضاءت ) ؟
الجواب : ذكر النور أبلغ ؛ لأن الضوء فيه دلالة على الزيادة ، فلو قيل : ذهب الله بضوئهم لأوهم ذهاب الكمال وبقاء ما يسمى نورا ، والغرض إزالة النور عنهم بالكلية ، ألا ترى كيف ذكر عقيبه : ( وتركهم في ظلمات لا يبصرون ) والظلمة عبارة عن عدم النور ، وكيف جمعها؟ وكيف نكرها؟ وكيف أتبعها ما يدل على أنها ظلمة خالصة وهو قوله : ( لا يبصرون ) ؟ .
السؤال السادس : لم قال : ( ذهب الله بنورهم ) ولم يقل أذهب الله نورهم ؟
والجواب : الفرق بين أذهب وذهب به أن معنى أذهبه أزاله وجعله ذاهبا ، ويقال : ذهب به إذا استصحبه ، ومعنى به معه ، وذهب السلطان بماله أخذه قال تعالى : ( فلما ذهبوا به ) [يوسف : 15] ( إذا لذهب كل إله بما خلق ) [المؤمنون : 91] والمعنى أخذ الله نورهم وأمسكه ( وما يمسك فلا مرسل له ) [فاطر : 2] فهو أبلغ من الإذهاب وقرأ اليماني " أذهب الله نورهم " .
السؤال السابع : ما معنى [وتركهم] ؟ والجواب : ترك إذا علق بواحد فهو بمعنى طرح ، وإذا علق بشيئين كان بمعنى صير ، فيجري مجرى أفعال القلوب ومنه قوله : ( وتركهم في ظلمات ) أصله هم في ظلمات ثم دخل "ترك" فنصبت الجزأين .
السؤال الثامن : لم حذف أحد المفعولين من لا يبصرون ؟
الجواب : أنه من قبيل المتروك الذي لا يلتفت إلى إخطاره بالبال ، لا من قبيل المقدر المنوي ، كأن الفعل غير متعد أصلا .
( صم بكم عمي فهم لا يرجعون )
قوله تعالى : ( صم بكم عمي فهم لا يرجعون )
[ ص: 70 ] اعلم أنه لما كان المعلوم من حالهم أنهم كانوا يسمعون وينطقون ويبصرون امتنع حمل ذلك على الحقيقة ، فلم يبق إلا تشبيه حالهم لشدة تمسكهم بالعناد ، وإعراضهم عما يطرق سمعهم من القرآن ، وما يظهره الرسول من الأدلة والآيات بمن هو أصم في الحقيقة فلا يسمع ، وإذا لم يسمع لم يتمكن من الجواب ، فلذلك جعله بمنزلة الأبكم ، وإذا لم ينتفع بالأدلة ولم يبصر طريق الرشد فهو بمنزلة الأعمى ، أما قوله : ( فهم لا يرجعون ) ففيه وجوه :
أحدها : أنهم لا يرجعون عما تقدم ذكره وهو التمسك بالنفاق الذي لأجل تمسكهم به وصفهم الله تعالى بهذه الصفات فصار ذلك دلالة على أنهم يستمرون على نفاقهم أبدا .
وثانيها : أنهم لا يعودون إلى الهدى بعد أن باعوه ، وعن الضلالة بعد أن اشتروها .
وثالثها : أراد أنهم بمنزلة المتحيرين الذين بقوا خامدين في مكانهم لا يبرحون ، ولا يدرون أيتقدمون أم يتأخرون؟ وكيف يرجعون إلى حيث ابتدءوا منه ؟ .