أحدها : أن الكفار كانوا في غاية الحرص على الطعن في القرآن ، فلو كان المعنى ذلك لقالوا لمحمد صلى الله عليه وسلم : إذا فعل الله الكفر فينا ، فكيف تأمرنا بالإيمان ؟ .
وثانيها : أنه تعالى لو كان فاعلا للكفر لجاز منه إظهار المعجزة على يد الكذاب ، فكان لا يبقى كون القرآن حجة ، فكيف نتشاغل بمعانيه وتفسيره .
وثالثها : أنه تعالى ذكر هذه الآيات في معرض الذم لهم على كفرهم فكيف يذمهم على شيء خلقه فيهم .
ورابعها : قوله : ( ولهم عذاب أليم ) فإن كان الله تعالى خلق ذلك فيهم كما خلق لونهم وطولهم ، فأي ذنب لهم حتى يعذبهم ؟ .
وخامسها : أنه تعالى أضافه إليهم بقوله : ( بما كانوا يكذبون ) وعلى هذا وصفهم تعالى بأنهم مفسدون في الأرض ، وأنهم هم السفهاء ، وأنهم إذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم ، إذا ثبت هذا فنقول : لا بد من التأويل وهو من وجوه :
الأول : يحمل المرض على الغم ؛ لأنه يقال مرض قلبي من أمر كذا ، والمعنى أن واستعلاء شأنه يوما فيوما ، وذلك كان يؤثر في زوال رياستهم ، كما المنافقين مرضت قلوبهم لما رأوا ثبات أمر النبي صلى الله عليه وسلم روي أنه عليه السلام مر بعبد الله بن أبي ابن سلول على حمار ، فقال له : نح حمارك يا محمد فقد آذتني ريحه ، فقال له بعض الأنصار : اعذره يا رسول الله ، فقد كنا عزمنا على أن نتوجه الرياسة قبل أن تقدم علينا : فهؤلاء لما اشتد عليهم الغم وصف الله [ ص: 59 ] تعالى ذلك فقال : ( فزادهم الله مرضا ) أي زادهم الله غما على غمهم بما يزيد في إعلاء أمر النبي صلى الله عليه وسلم وتعظيم شأنه .
الثاني : أن مرضهم وكفرهم كان يزداد بسبب ازدياد التكاليف ، فهو كقوله تعالى في سورة التوبة : ( فزادتهم رجسا إلى رجسهم ) [التوبة : 125] والسورة لم تفعل ذلك ، ولكنهم لما ازدادوا رجسا عند نزولها لما كفروا بها قيل ذلك ، وكقوله تعالى حكاية عن نوح ( إني دعوت قومي ليلا ونهارا فلم يزدهم دعائي إلا فرارا ) [نوح : 5 ، 6] والدعاء لم يفعل شيئا من هذا ، ولكنهم ازدادوا فرارا عنده ، وقال : ( ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ) [التوبة : 49] والنبي عليه السلام إن لم يأذن له لم يفتنه ، ولكنه كان يفتتن عند خروجه فنسبت الفتنة إليه ( وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا ) [المائدة : 64] وقال : ( فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا ) [فاطر : 42] وقولك لمن وعظته فلم يتعظ وتمادى في فساده : ما زادتك موعظتي إلا شرا ، وما زادتك إلا فسادا فكذا هؤلاء المنافقون لما كانوا كافرين ، ثم دعاهم الله إلى شرائع دينه فكفروا بتلك الشرائع وازدادوا بسبب ذلك كفرا لا جرم أضيفت زيادة كفرهم إلى الله .
الثالث : المراد من قوله : ( فزادهم الله مرضا ) المنع من زيادة الألطاف ، فيكون بسبب ذلك المنع خاذلا لهم وهو كقوله : ( قاتلهم الله أنى يؤفكون ) [المنافقون : 4] .
الرابع : أن العرب تصف فتور الطرف بالمرض ، فيقولون : جارية مريضة الطرف . قال جرير :
فإن العيون التي في طرفها مرض قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
فكذا المرض ههنا إنما هو الفتور في النية ، وذلك لأنهم في أول الأمر كانت قلوبهم قوية على المحاربة والمنازعة وإظهار الخصومة ، ثم انكسرت شوكتهم فأخذوا في النفاق بسبب ذلك الخوف والانكسار ، فقال تعالى : ( فزادهم الله مرضا ) أي زادهم ذلك الانكسار والجبن والضعف ، ولقد حقق الله تعالى ذلك بقوله : ( وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين ) [الحشر : 2] .
الخامس : أن يحمل المرض على ألم القلب ، وذلك أن الإنسان إذا صار مبتلى بالحسد والنفاق ومشاهدة المكروه ، فإذا دام به ذلك فربما صار ذلك سببا لغير مزاج القلب وتألمه ، وحمل اللفظ على هذا الوجه حمل له على حقيقته ، فكان أولى من سائر الوجوه ، أما قوله : ( ولهم عذاب أليم ) قال صاحب " الكشاف " : ألم فهو أليم ، كوجع فهو وجيع ، ووصف العذاب به فهو نحو قوله : تحية بينهم ضرب وجيع ، وهذا على طريقة قولهم : جد جده ، والألم في الحقيقة للمؤلم كما أن الجد للجاد ، أما قوله : ( بما كانوا يكذبون ) ففيه أبحاث ، أحدها : أن الكذب هو الخبر عن شيء على خلاف ما هو به لا يسميه كذبا إلا إذا علم المخبر كون المخبر عنه مخالفا للخبر ، وهذه الآية حجة عليه . والجاحظ
وثانيها : أن قوله : ( ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون ) صريح في أن كذبهم علة للعذاب الأليم ، وذلك يقتضي أن يكون كل كذب حراما فأما ما روي أن إبراهيم عليه السلام كذب ثلاث كذبات ، فالمراد التعريض ، ولكن لما كانت صورته صورة الكذب سمي به .
وثالثها : في هذه الآية قراءتان : إحداهما : ( يكذبون ) والمراد بكذبهم قوله : ( بالله وباليوم الآخر وما ) . والثانية : " يكذبون " من كذبه الذي هو نقيض صدقه ، ومن كذب الذي هو مبالغة في كذب ، كما بولغ في صدق فقيل صدق .
[ ص: 60 ] ( وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون )
قوله تعالى : ( وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون )
اعلم أن هذا هو النوع الثاني من قبائح أفعال المنافقين ، والكلام فيه من وجوه :
أحدها : أن يقال : من القائل ( لا تفسدوا في الأرض ) ؟ .
وثانيها : ما الفساد في الأرض ؟ وثالثها : من القائل : ( إنما نحن مصلحون ) ؟ ورابعها : ما الصلاح ؟
أما المسألة الأولى : فمنهم من قال : ذلك القائل هو الله تعالى ، ومنهم من قال : هو الرسول عليه السلام ، ومنهم من قال : بعض المؤمنين ، وكل ذلك محتمل ، ولا يجوز أن يكون القائل بذلك من لا يختص بالدين والنصيحة ، وإن كان الأقرب هو أن القائل لهم ذلك من شافههم بذلك ، فإما أن يكون الرسول عليه السلام بلغه عنهم النفاق ولم يقطع بذلك فنصحهم فأجابوا بما يحقق إيمانهم وأنهم في الصلاح بمنزلة سائر المؤمنين ، وإما أن يقال : إن بعض من كانوا يلقون إليه الفساد كان لا يقبله منهم وكان ينقلب واعظا لهم قائلا لهم : ( لا تفسدوا ) فإن قيل : أفما كانوا يخبرون الرسول عليه السلام بذلك ؟ قلنا : نعم ، إلا أن المنافقين كانوا إذا عوتبوا عادوا إلى إظهار الإسلام والندم وكذبوا الناقلين عنهم وحلفوا بالله عليه ، كما أخبر تعالى عنهم في قوله : ( يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر ) [التوبة : 74] وقال : ( يحلفون لكم لترضوا عنهم ) [التوبة : 96] .
المسألة الثانية : الفساد خروج الشيء عن كونه منتفعا به ، ونقيضه الصلاح فأما كونه فسادا في الأرض فإنه يفيد أمرا زائدا ، وفيه ثلاثة أقوال : أحدها : قول ابن عباس والحسن وقتادة والسدي : أن إظهار معصية الله تعالى ، وتقريره ما ذكره المراد بالفساد في الأرض القفال رحمه الله وهو أن إظهار معصية الله تعالى إنما كان إفسادا في الأرض ؛ لأن ، فإذا تمسك الخلق بها زال العدوان ولزم كل أحد شأنه ، فحقنت الدماء وسكنت الفتن ، وكان فيه صلاح الأرض وصلاح أهلها ، أما إذا تركوا التمسك بالشرائع وأقدم كل أحد على ما يهواه لزم الهرج والمرج والاضطراب ، ولذلك قال تعالى : ( الشرائع سنن موضوعة بين العباد فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض ) [محمد : 22] نبههم على أنهم إذا أعرضوا عن الطاعة لم يحصلوا إلا على الإفساد في الأرض به .
وثانيها : أن يقال : ذلك الفساد هو مداراة المنافقين للكافرين ومخالطتهم معهم ؛ لأنهم لما مالوا إلى الكفر مع أنهم في الظاهر مؤمنون أوهم ذلك ضعف الرسول صلى الله عليه وسلم وضعف أنصاره ، فكان ذلك يجرئ الكفرة على إظهار عداوة الرسول ونصب الحرب له وطمعهم في الغلبة ، وفيه فساد عظيم في الأرض .
وثالثها : قال الأصم : كانوا يدعون في السر إلى تكذيبه ، وجحد الإسلام ، وإلقاء الشبه .
المسألة الثالثة : الذين قالوا إنما نحن مصلحون هم المنافقون ، والأقرب في مرادهم أن يكون نقيضا لما نهوا عنه ، فلما كان الذي نهوا عنه هو الإفساد في الأرض كان قولهم : ( إنما نحن مصلحون ) كالمقابل له ، وعند ذلك يظهر احتمالان :
أحدهما : أنهم اعتقدوا في دينهم أنه هو الصواب ، [ ص: 61 ] وكان سعيهم لأجل تقوية ذلك الدين ، لا جرم قالوا : إنما نحن مصلحون ؛ لأنهم في اعتقادهم ما سعوا إلا لتطهير وجه الأرض عن الفساد .
وثانيهما : أنا إذا فسرنا ( لا تفسدوا ) بمداراة المنافقين للكفار فقولهم : ( إنما نحن مصلحون ) يعني به أن هذه المداراة سعي في الإصلاح بين المسلمين والكفار ، ولذلك حكى الله تعالى عنهم أنهم قالوا : ( إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا ) [النساء : 62] فقولهم : ( إنما نحن مصلحون ) أي نحن نصلح أمور أنفسنا .
واعلم أن العلماء استدلوا بهذه الآية على أن ، وتجويز خلافه لا يطعن فيه ، وتوبة الزنديق مقبولة والله أعلم . من أظهر الإيمان وجب إجراء حكم المؤمنين عليه
وأما قوله : ( ألا إنهم هم المفسدون ) فخارج على وجوه ثلاثة :
أحدها : أنهم مفسدون ؛ لأن ، إذ فيه كفران نعمة الله ، وإقدام كل أحد على ما يهواه ؛ لأنه إذا كان لا يعتقد وجود الإله ولا يرجو ثوابا ولا عقابا تهارج الناس ، ومن هذا ثبت أن النفاق فساد ؛ ولهذا قال : ( الكفر فساد في الأرض فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض ) على ما تقدم تقريره .