( ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين )
قوله تعالى : ( ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين )
اعلم أن المفسرين أجمعوا على أن ذلك في ، قالوا : وصف الله الأصناف الثلاثة من المؤمنين والكافرين والمنافقين فبدأ بالمؤمنين المخلصين الذين صحت سرائرهم وسلمت ضمائرهم ، ثم أتبعهم بالكافرين الذين من صفتهم الإقامة على الجحود والعناد ، ثم وصف حال من يقول بلسانه إنه مؤمن وضميره يخالف ذلك ، وفيه مسائل : وصف المنافقين
المسألة الأولى : اعلم أن الكلام في حقيقة النفاق لا يتخلص إلا بتقسيم نذكره فنقول : ، وهي الاعتقاد المطابق المستفاد عن الدليل وهو العلم ، والاعتقاد المطابق المستفاد لا عن الدليل وهو اعتقاد المقلد ، والاعتقاد غير المطابق وهو الجهل ، وخلو القلب عن كل ذلك ، فهذه أقسام أربعة ، وأما أحوال اللسان فثلاثة : الإقرار ، والإنكار ، والسكوت ، فيحصل من تركيباتها اثنا عشر قسما . أحوال القلب أربعة
النوع الأول : ما إذا حصل العرفان القلبي ، فههنا إما أن ينضم إليه الإقرار باللسان أو الإنكار باللسان أو السكوت . القسم الأول : ما فهذا الإقرار إن كان اختياريا فصاحبه مؤمن حقا بالاتفاق ، وإن كان اضطراريا وهو ما إذا عرف بقلبه ولكنه يجد من نفسه أنه لولا الخوف لما أقر ، بل أنكر ، فهذا يجب أن يعد منافقا ؛ لأنه بقلبه منكر مكذب ، فإذا كان باللسان مقرا مصدقا وجب أن يعد منافقا ؛ لأنه بقلبه [ ص: 54 ] منكر مكذب بوجوب الإقرار ، القسم الثاني : أن يحصل العرفان القلبي والإنكار اللساني ، فهذا الإنكار إن كان اضطراريا كان صاحبه مسلما ، لقوله تعالى : ( إذا حصل العرفان بالقلب والإقرار باللسان إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ) [النحل : 106] وإن كان اختياريا كان كافرا معاندا .
القسم الثالث : أن يحصل العرفان القلبي ويكون اللسان خاليا عن الإقرار والإنكار ، فهذا السكوت إما أن يكون اضطراريا أو اختياريا ، فإن كان اضطراريا فذلك إذا خاف ذكره باللسان فهذا مسلم حقا أو كما إذا عرف الله بدليله ثم لما تمم النظر مات فجأة ، فهذا مؤمن قطعا ؛ لأنه أتى بكل ما كلف به ولم يجد زمان الإقرار والإنكار فكان معذورا فيه ، وأما إن كان اختياريا فهو كمن عرف الله بدليله ثم إنه لم يأت بالإقرار ، فهذا محل البحث ، وميل رحمه الله إلى أنه يكون مؤمنا لقوله عليه السلام : الغزالي " يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان وهذا الرجل قلبه مملوء من نور الإيمان فكيف لا يخرج من النار؟ . "
النوع الثاني : أن يحصل في القلب الاعتقاد التقليدي ، فإما أن يوجد معه الإقرار ، أو الإنكار أو السكوت :
القسم الأول : أن يوجد معه الإقرار ، ثم ذلك الإقرار إن كان اختياريا فهذا هو المسألة المشهورة من أن المقلد هل هو مؤمن أم لا ؟ وإن كان اضطراريا فهذا يفرع على الصورة الأولى ، فإن حكمنا في الصورة الأولى بالكفر ، فههنا لا كلام ، وإن حكمنا هناك بالإيمان وجب أن يحكم ههنا بالنفاق ؛ لأن في هذه الصورة لو كان القلب عارفا لكان هذا الشخص منافقا ، فبأن يكون منافقا عند التقليد كان أولى .
القسم الثاني : الاعتقاد التقليدي مع الإنكار اللساني ، ثم هذا الإنكار إن كان اختياريا فلا شك في الكفر ، وإن كان اضطراريا وحكمنا بإيمان المقلد وجب أن نحكم بالإيمان في هذه الصورة .
القسم الثالث : الاعتقاد التقليدي مع السكوت اضطراريا كان أو اختياريا ، وحكمه حكم القسم الثالث من النوع الأول إذا حكمنا بإيمان المقلد .
النوع الثالث : الإنكار القلبي فإما أن يوجد معه الإقرار اللساني ، أو الإنكار اللساني ، أو السكوت .
القسم الأول : أن يوجد معه الإقرار اللساني ، فذلك الإقرار إن كان اضطراريا فهو المنافق وإن كان اختياريا فهو مثل أن يعتقد بناء على شبهة أن العالم قديم ثم بالاختيار أقر باللسان أن العالم محدث ، وهذا غير مستبعد ؛ لأنه إذا جاز أن يعرف بالقلب ثم ينكر باللسان وهو كفر الجحود والعناد ، فلم لا يجوز أن يجهل بالقلب ثم يقر باللسان ؟ فهذا القسم أيضا من النفاق .
القسم الثاني : أن يوجد الإنكار القلبي ويوجد الإنكار اللساني فهذا كافر وليس بمنافق ؛ لأنه ما أظهر شيئا بخلاف باطنه .
القسم الثالث : أن يوجد الإنكار القلبي مع السكوت اللساني فهذا كافر وليس بمنافق ؛ لأنه ما أظهر شيئا .
النوع الرابع : القلب الخالي عن جميع الاعتقادات فهذا إما أن يوجد معه الإقرار أو الإنكار أو السكوت .
القسم الأول : إذا وجد الإقرار فهذا الإقرار إما أن يكون اختياريا أو اضطراريا ، فإن كان اختياريا ، فإن كان صاحبه في مهلة النظر لم يلزمه الكفر ، لكنه فعل ما لا يجوز حيث أخبر عما لا يدري أنه هل هو صادق فيه أم لا ؟ وإن كان لا في مهلة النظر ففيه نظر ، أما إذا كان اضطراريا لم يكفر صاحبه ؛ لأن توقفه إذا كان في مهلة النظر وكان يخاف على نفسه من ترك الإقرار لم يكن عمله قبيحا .
القسم الثاني : القلب الخالي مع الإنكار باللسان وحكمه على العكس من حكم القسم العاشر .
القسم الثالث : القلب الخالي مع اللسان الخالي ، فهذا إن كان في مهلة النظر فذاك هو الواجب ، وإن كان خارجا عن مهلة النظر وجب تكفيره ولا يحكم عليه بالنفاق ألبتة ، فهذه هي الأقسام الممكنة في هذا الباب ، وقد ظهر منه أن النفاق ما هو ، وأنه الذي لا يطابق ظاهره باطنه سواء كان في باطنه ما يضاد ما في ظاهره أو كان باطنه خاليا عما يشعر به ظاهره ، وإذ عرفت هذا ظهر أن قوله : [ ص: 55 ] ( ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر ) المراد منه المنافقون ، والله أعلم .