( المسألة الثالثة ) : هي : الطبع ، والكنان ، والرين على القلب ، والوقر في الآذان ، والغشاوة في البصر ، ثم الآيات الواردة في ذلك مختلفة ، فالقسم الأول : وردت دلالة على حصول هذه الأشياء ، قال : ( الألفاظ الواردة في القرآن القريبة من معنى الختم كلا بل ران على قلوبهم ) [المطففين : 14] ( وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا ) [الأنعام : 25] ( وطبع على قلوبهم ) [التوبة : 87] ( بل طبع الله عليها بكفرهم ) [النساء : 155] ( فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون ) [فصلت : 4] ( لينذر من كان حيا ) [يس : 70] ( إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء ) [الروم : 52] ( أموات غير أحياء ) [النحل : 21] ( في قلوبهم مرض ) [البقرة : 10] .
والقسم الثاني : وردت دلالة على أنه لا مانع البتة ( وما منع الناس أن يؤمنوا ) [الإسراء : 94] ( فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ) [الكهف : 29] ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ) [البقرة : 286] ( وما جعل عليكم في الدين من حرج ) [الحج : 78] ( كيف تكفرون بالله ) [البقرة : 28] ( لم تلبسون الحق بالباطل ) [آل عمران : 71] والقرآن مملوء من هذين القسمين ، وصار كل قسم منهما متمسكا لطائفة ، فصارت الدلائل السمعية لكونها من الطرفين واقعة في حيز التعارض ، أما الدلائل العقلية فهي التي سبقت الإشارة إليها ، وبالجملة فهذه المسألة من أعظم المسائل الإسلامية وأكثرها شعبا وأشدها شغبا ، ويحكى أن الإمام سئل عن تكفير أبا القاسم الأنصاري المعتزلة في هذه المسألة ، فقال : لا ؛ لأنهم نزهوه ، فسئل عن أهل السنة ، فقال : لا ، لأنهم عظموه ، والمعنى أن كلا الفريقين ما طلب إلا إثبات جلال الله وعلو كبريائه ، إلا أن أهل السنة وقع نظرهم على العظمة ، فقالوا : ينبغي أن يكون هو الموجد ولا موجد سواه ، والمعتزلة وقع نظرهم على الحكمة ، فقالوا : لا يليق بجلال حضرته هذه القبائح ، وأقول : ههنا سر آخر ، وهو أن إثبات الإله يلجئ إلى القول بالجبر ، لأن الفاعلية لو لم تتوقف على الداعية لزم وقوع الممكن من غير مرجح ، وهو نفي الصانع ، ولو توقفت لزم الجبر . وإثبات الرسول يلجئ إلى القول بالقدرة . بل ههنا سر آخر ، هو فوق الكل ، وهو أنا لما رجعنا إلى الفطرة السليمة والعقل الأول وجدنا أن ما استوى الوجود والعدم بالنسبة إليه لا يترجح أحدهما على الآخر إلا لمرجح ، وهذا يقتضي الجبر ، ونجد أيضا تفرقة بديهية بين الحركات الاختيارية والحركات الاضطرارية ، وجزما بديهيا بحسن المدح وقبح الذم والأمر والنهي ، وذلك يقتضي مذهب المعتزلة ، فكأن هذه المسألة وقعت في حيز التعارض بحسب العلوم الضرورية ، وبحسب العلوم النظرية ، وبحسب تعظيم الله تعالى نظرا إلى قدرته وحكمته ، وبحسب التوحيد والتنزيه ، وبحسب الدلائل السمعية ، فلهذه المآخذ التي شرحناها والأسرار التي كشفنا عن حقائقها صعبت المسألة وغمضت وعظمت ، فنسأل الله العظيم أن يوفقنا للحق ، وأن يختم عاقبتنا بالخير آمين رب العالمين .