أما قوله : ( لا يؤمنون ) ففيه مسألتان :
( المسألة الأولى ) : قال صاحب الكشاف : هذه إما أن تكون جملة مؤكدة للجملة قبلها ، أو خبرا " لإن " ، والجملة قبلها اعتراض .
( المسألة الثانية ) : احتج أهل السنة بهذه الآية وكل ما أشبهها من قوله : ( لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون ) [يس : 7] وقوله : ( ذرني ومن خلقت وحيدا ) إلى قوله : ( سأرهقه صعودا ) [المدثر : 11 ، 17] وقوله : ( تبت يدا أبي لهب ) [المسد : 1] على ، وتقريره أنه تعالى أخبر عن شخص معين أنه لا يؤمن قط ، فلو صدر منه الإيمان لزم انقلاب خبر الله تعالى الصدق كذبا ، والكذب عند الخصم قبيح ، وفعل القبيح يستلزم إما الجهل وإما الحاجة ، وهما محالان على الله ، والمفضي إلى المحال محال ، فصدور الإيمان منه محال ، فالتكليف به تكليف بالمحال ، وقد يذكر هذا في صورة العلم ، هو أنه تعالى لما علم منه أنه لا يؤمن فكان صدور الإيمان منه يستلزم انقلاب علم الله تعالى جهلا ، وذلك محال ومستلزم المحال محال . فالأمر واقع بالمحال . ونذكر هذا على وجه ثالث : وهو أن وجود الإيمان يستحيل أن يوجد مع العلم بعدم الإيمان ؛ لأنه إنما يكون علما لو كان مطابقا للمعلوم ، والعلم بعدم الإيمان إنما يكون مطابقا لو حصل عدم الإيمان ، فلو وجد الإيمان مع العلم بعدم الإيمان لزم أن يجتمع في الإيمان كونه موجودا ومعدوما معا ، وهو محال ، فالأمر بالإيمان مع وجود علم الله تعالى بعدم الإيمان أمر بالجمع بين الضدين ، بل أمر بالجمع بين العدم والوجود ، وكل ذلك محال ، ونذكر هذا على وجه رابع : وهو أنه تعالى كلف هؤلاء الذين أخبر عنهم بأنهم لا يؤمنون بالإيمان ألبتة ، والإيمان يعتبر فيه تصديق الله تعالى في كل ما أخبر عنه ، ومما أخبر عنه أنهم لا يؤمنون قط ، فقد صاروا مكلفين بأن يؤمنوا بأنهم لا يؤمنون قط ، وهذا تكليف بالجمع بين النفي والإثبات ، ونذكر هذا على وجه خامس : وهو أنه تعالى عاب الكفار على أنهم [ ص: 40 ] حاولوا فعل شيء على خلاف ما أخبر الله عنه في قوله : ( تكليف ما لا يطاق يريدون أن يبدلوا كلام الله قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل ) [الفتح : 15] فثبت أن القصد إلى تكوين ما أخبر الله تعالى عن عدم تكوينه قصد لتبديل كلام الله تعالى ، وذلك منهي عنه . ثم ههنا أخبر الله تعالى عنهم بأنهم لا يؤمنون ألبتة ، فمحاولة الإيمان منهم تكون قصدا إلى تبديل كلام الله ، وذلك منهي عنه ، وترك محاولة الإيمان يكون أيضا مخالفة لأمر الله تعالى ، فيكون الذم حاصلا على الترك والفعل ، فهذه هي الوجوه المذكورة في هذا الموضع ، وهذا هو الكلام الهادم لأصول الاعتزال . ولقد كان السلف والخلف من المحققين معولين عليه في دفع أصول المعتزلة وهدم قواعدهم ، ولقد قاموا وقعدوا واحتالوا على دفعه ، فما أتوا بشيء مقنع ، وأنا أذكر أقصى ما ذكروه بعون الله تعالى وتوفيقه : قالت المعتزلة : لنا في هذه الآية مقامان :
المقام الأول : بيان أنه لا يجوز أن يكون علم الله تعالى وخبر الله تعالى عن عدم الإيمان مانعا من الإيمان ، والمقام الثاني : بيان الجواب العقلي على سبيل التفصيل ، أما المقام الأول فقالوا : الذي يدل عليه وجوه :
أحدها : أن ، قال : ( القرآن مملوء من الآيات الدالة على أنه لا مانع لأحد من الإيمان وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ) [الإسراء : 94] وهو إنكار بلفظ الاستفهام ، ومعلوم أن رجلا لو حبس آخر في بيت بحيث لا يمكنه الخروج عنه ، ثم يقول : ما منعك من التصرف في حوائجي ؟ كان ذلك منه مستقبحا ، وكذا قوله : ( وماذا عليهم لو آمنوا ) [الأعراف : 12] وقوله لإبليس : ( ما منعك أن تسجد ) [النساء : 39] وقول موسى لأخيه : ( ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ) [طه : 92] وقوله : ( فما لهم لا يؤمنون ) [الانشقاق : 20] ( فما لهم عن التذكرة معرضين ) [المدثر : 49] ( عفا الله عنك لم أذنت لهم ) [التوبة : 43] ( لم تحرم ما أحل الله لك ) [التحريم : 1] قال في فصل له في هذا الباب : كيف يأمره بالإيمان وقد منعه عنه ؟ وينهاه عن الكفر وقد حمله عليه ؟ وكيف يصرفه عن الإيمان ثم يقول : أنى تصرفون ؟ ويخلق فيهم الإفك ثم يقول : أنى تؤفكون ؟ وأنشأ فيهم الكفر ثم يقول : لم تكفرون ؟ وخلق فيهم لبس الحق بالباطل ثم يقول : ( الصاحب بن عباد لم تلبسون الحق بالباطل ) [آل عمران : 71] وصدهم عن السبيل ثم يقول : ( لم تصدون عن سبيل الله ) [آل عمران : 99] وحال بينهم وبين الإيمان ثم قال : ( وماذا عليهم لو آمنوا ) وذهب بهم عن الرشد ثم قال : ( فأين تذهبون ) [التكوير : 26] وأضلهم عن الدين حتى أعرضوا ثم قال : ( فما لهم عن التذكرة معرضين ) . [المدثر : 49] .
وثانيها : أن الله تعالى قال : ( رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ) [النساء : 165] وقال : ( ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى ) [طه : 134] فلما بين أنه ما أبقى لهم عذرا إلا وقد أزاله عنهم ، فلو كان علمه بكفرهم وخبره عن كفرهم مانعا لهم عن الإيمان لكان ذلك من أعظم الأعذار وأقوى الوجوه الدافعة للعقاب عنهم ، فلما لم يكن كذلك علمنا أنه غير مانع .
وثالثها : أنه تعالى حكى عن الكفار في سورة " حم السجدة " أنهم قالوا : قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ، وإنما ذكر الله تعالى ذلك ذما لهم في هذا القول ، فلو كان العلم مانعا لكانوا صادقين في ذلك ، فلم ذمهم عليه ؟ .
ورابعها : أنه تعالى أنزل قوله : ( إن الذين كفروا - إلى آخره ) ذما لهم وزجرا عن الكفر وتقبيحا لفعلهم ، فلو كانوا ممنوعين عن الإيمان غير قادرين عليه لما استحقوا الذم البتة ، بل كانوا معذورين كما يكون الأعمى معذورا في أن لا يمشي .
وخامسها : عليهم ، لا أن يكون لهم حجة على الله وعلى رسوله ، فلو [ ص: 41 ] كان العلم والخبر مانعا لكان لهم أن يقولوا : إذا علمت الكفر وأخبرت عنه كان ترك الكفر محالا منا ، فلم تطلب المحال منا ولم تأمرنا بالمحال ؟ ومعلوم أن هذا مما لا جواب لله ولا لرسوله عنه لو ثبت أن العلم والخبر يمنع . القرآن إنما أنزل ليكون حجة لله ولرسوله
وسادسها : قوله تعالى : ( نعم المولى ونعم النصير ) [الأنفال : 40] ولو كان مع قيام المانع عن الإيمان كلف به لما كان نعم المولى ، بل كان بئس المولى ، ومعلوم أن ذلك كفر ، قالوا : فثبت بهذه الوجوه أنه ليس عن الإيمان والطاعة مانع ألبتة ، فوجب القطع بأن علم الله تعالى بعدم الإيمان ، وخبره عن عدمه ، لا يكون مانعا عن الإيمان .