الباب التاسع
في المباحث المتعلقة بقولنا : " الله " ، وفيه مسائل
المسألة الأولى : المختار عندنا أن ، وأنه ليس بمشتق البتة ، وهو قول [ ص: 132 ] هذا اللفظ اسم علم لله تعالى الخليل ، وقول أكثر الأصوليين والفقهاء ، ويدل عليه وجوه وحجج : وسيبويه
الحجة الأولى : أنه لو كان لفظا مشتقا لكان معناه معنى كليا لا يمنع نفس مفهومه من وقوع الشركة فيه ؛ لأن اللفظ المشتق لا يفيد إلا أنه شيء ما مبهم حصل له ذلك المشتق منه ، وهذا المفهوم لا يمنع من وقوع الشركة فيه بين كثيرين ، فثبت أن هذا اللفظ لو كان مشتقا لم يمنع وقوع الشركة فيه بين كثيرين ، ولو كان كذلك لما كان قولنا : " لا إله إلا الله " توحيدا حقا مانعا من وقوع الشركة فيه بين كثيرين ؛ لأن بتقدير أن يكون الله لفظا مشتقا كان قولنا : " الله " غير مانع من أن يدخل تحته أشخاص كثيرة ، وحينئذ لا يكون قولنا : " لا إله إلا الله " موجبا للتوحيد المحض ، وحيث أجمع العقلاء على أن قولنا : " لا إله إلا الله " يوجب التوحيد المحض علمنا أن قولنا : " الله " اسم علم موضوع لتلك الذات المعينة ، وأنها ليست من الألفاظ المشتقة .
الحجة الثانية : أن من أراد أن يذكر ذاتا معينة ثم يذكره بالصفات ، فإنه يذكر اسمه أولا ثم يذكر عقيب الاسم الصفات ، مثل أن يقول : زيد الفقيه النحوي الأصولي ، إذا عرفت هذا فنقول : إن كل من أراد أن يذكر الله تعالى بالصفات المقدسة فإنه يذكر أولا لفظة " الله " ثم يذكر عقيبه صفات المدائح مثل أن يقول : الله العالم القادر الحكيم ، ولا يعكسون هذا فلا يقولون : العالم القادر الله ، وذلك يدل على أن قولنا : " الله " اسم علم .
فإن قيل : أليس أنه تعالى قال في أول سورة إبراهيم : ( العزيز الحميد الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ) [ إبراهيم : 1] ؟ قلنا : هاهنا قراءتان ، منهم من قرأ " الله " بالرفع ، وحينئذ يزول السؤال ؛ لأنه لما جعله مبتدأ فقد أخرجه عن جعله صفة لما قبله ، وأما من قرأ بالجر فهو نظير لقولنا : هذه الدار ملك للفاضل العالم زيد ، وليس المراد أنه جعل قوله " زيد " صفة للعالم الفاضل ، بل المعنى أنه لما قال : هذه الدار ملك للعالم الفاضل ، بقي الاشتباه في أنه من ذلك العالم الفاضل ؟ فقيل عقيبه : زيد ، ليصير هذا مزيلا لذلك الاشتباه ، ولما لم يلزم هاهنا أن يقال اسم العلم صار صفة ، فكذلك في هذه الآية .
الحجة الثالثة : قال تعالى : ( هل تعلم له سميا ) [ مريم : 65 ] وليس المراد من الاسم في هذه الآية الصفة ، وإلا لكذب قوله " هل تعلم له سميا " فوجب أن يكون المراد اسم العلم ، فكل من أثبت لله اسم علم قال : ليس ذاك إلا قولنا الله .
واحتج القائلون بأنه ليس اسم علم بوجوه وحجج :
الحجة الأولى : قوله تعالى : ( وهو الله في السماوات ) [ الأنعام : 3 ] وقوله : ( هو الله الذي لا إله إلا هو ) [ الحشر : 22 ] فإن قوله " الله " لا بد وأن يكون صفة ، ولا يجوز أن يكون اسم علم ، بدليل أنه لا يجوز أن يقال : هو زيد في البلد ، وهو بكر ، ويجوز أن يقال : هو العالم الزاهد في البلد ، وبهذا الطريق يعترض على قول النحويين : إن الضمير لا يقع موصوفا ولا صفة ، وإذا ثبت كونه صفة امتنع أن يكون اسم علم .
الحجة الثانية : أن اسم العلم قائم مقام الإشارة ، فلما كانت الإشارة ممتنعة في حق الله تعالى كان اسم العلم ممتنعا في حقه .
الحجة الثالثة : أن اسم العلم إنما يصار إليه ليتميز شخص عن شخص آخر يشبهه في الحقيقة والماهية ، وإذا كان هذا في حق الله ممتنعا ، كان القول بإثبات الاسم العلم محالا في حقه .
[ ص: 133 ] والجواب عن الأول : لم لا يجوز أن يكون ذلك جاريا مجرى أن يقال : هذا زيد الذي لا نظير له في العلم والزهد ؟ والجواب عن الثاني أن الاسم العلم هو الذي وضع لتعيين الذات المعينة ، ولا حاجة فيه إلى كون ذلك المسمى مشارا إليه بالحس أم لا ، وهذا هو الجواب عن الحجة الثالثة .
المسألة الثانية : الذين قالوا : إنه اسم مشتق ذكروا فيه فروعا :
الفرع الأول : أن الإله هو المعبود ، سواء عبد بحق أو بباطل ، ثم غلب في عرف الشرع على المعبود بالحق ، وعلى هذا التفسير لا يكون إلها في الأزل .
واعلم أنه تعالى هو المستحق للعبادة ، وذلك لأنه تعالى هو المنعم بجميع النعم أصولها وفروعها ، وذلك لأن الموجود إما واجب وإما ممكن ، والواجب واحد وهو الله تعالى ، وما سواه ممكن ، والممكن لا يوجب إلا بالمرجح ، فكل الممكنات إنما وجدت بإيجاده وتكوينه ، إما ابتداء وإما بواسطة ، فجميع ما حصل للعبد من أقسام النعم لم يحصل إلا من الله ، فثبت أن غاية الإنعام صادرة من الله ، والعبادة غاية التعظيم ، فإذا ثبت هذا فنقول : إن غاية التعظيم لا يليق إلا لمن صدرت عنه غاية الإنعام فثبت أن المستحق للعبودية ليس إلا الله تعالى .