[ ص: 186 ] ( واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا ) .
قوله تعالى : ( واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا ) .
اعلم أنه تعالى لما ذكر في الآيات المتقدمة ، وما يتصل بهذا الباب ، ضم إلى ذلك التغليظ عليهن فيما يأتينه من الفاحشة ، فإن ذلك في الحقيقة إحسان إليهن ونظر لهن في أمر آخرتهن ، وأيضا ففيه فائدة أخرى : وهو أن لا يجعل أمر الله الرجال بالإحسان إليهن سببا لترك إقامة الحدود عليهن ، فيصير ذلك سببا لوقوعهن في أنواع المفاسد والمهالك ، وأيضا فيه فائدة ثالثة ، وهي بيان أن الله تعالى كما يستوفي لخلقه فكذلك يستوفي عليهم ، وأنه ليس في أحكامه محاباة ولا بينه وبين أحد قرابة ، وأن مدار هذا الشرع الإنصاف والاحتراز في كل باب عن طرفي الإفراط والتفريط ، فقال : ( الأمر بالإحسان إلى النساء ومعاشرتهن بالجميل واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم ) وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : اللاتي : جمع التي ، : اللاتي واللات واللواتي واللوات . قال وللعرب في جمع " التي " لغات : العرب تقول في الجمع من غير الحيوان : التي ، ومن الحيوان : اللاتي ، كقوله : ( أبو بكر الأنباري أموالكم التي جعل الله لكم قياما ) [ النساء : 5 ] وقال في هذه : اللاتي واللائي ، والفرق هو أن الجمع من غير الحيوان سبيله سبيل الشيء الواحد ، وأما جمع الحيوان فليس كذلك ، بل كل واحدة منها غير متميزة عن غيرها بخواص وصفات ، فهذا هو الفرق ، ومن العرب من يسوي بين البابين ، فيقول : ما فعلت الهندات التي من أمرها كذا ، وما فعلت الأثواب التي من قصتهن كذا ، والأول هو المختار .
المسألة الثانية : قوله : ( يأتين الفاحشة ) أي يفعلنها يقال : أتيت أمرا قبيحا ، أي فعلته قال تعالى : ( لقد جئت شيئا فريا ) [ مريم : 27 ] وقال : ( لقد جئتم شيئا إدا ) [ مريم : 89 ] وفي التعبير عن الإقدام على الفواحش بهذه العبارة لطيفة ، وهي أن الله تعالى لما نهى المكلف عن فعل هذه المعاصي ، فهو تعالى لا يعين المكلف على فعلها ، بل المكلف كأنه ذهب إليها من عند نفسه ، واختارها بمجرد طبعه ، فلهذه الفائدة يقال : إنه جاء إلى تلك الفاحشة وذهب إليها ، إلا أن هذه الدقيقة لا تتم إلا على قول المعتزلة . وفي قراءة ابن مسعود : يأتين بالفاحشة ، وأما الفاحشة فهي الفعلة القبيحة وهي مصدر عند أهل اللغة كالعاقبة يقال : فحش الرجل يفحش فحشا وفاحشة ، وأفحش إذا جاء بالقبيح من القول أو الفعل . وأجمعوا على أن الفاحشة ههنا الزنا ، وإنما لزيادتها في القبح على كثير من القبائح . أطلق على الزنا اسم الفاحشة
فإن قيل : الكفر أقبح منه ، وقتل النفس أقبح منه ، ولا يسمى ذلك فاحشة .
قلنا : السبب في ذلك أن القوى المدبرة لبدن الإنسان ثلاثة : القوة الناطقة ، والقوة الغضبية والقوة الشهوانية ، ففساد القوة الناطقة هو الكفر والبدعة وما يشبههما ، وفساد القوة الغضبية هو القتل والغضب وما يشبههما ، وفساد القوة الشهوانية هو الزنا واللواط والسحق وما أشبهها ، وأخس هذه القوى الثلاثة : القوة [ ص: 187 ] الشهوانية ، فلا جرم كان فسادها أخس أنواع الفساد ، فلهذا السبب خص هذا العمل بالفاحشة والله أعلم بمراده .