( إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب )
قوله تعالى : ( إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب ) .
[ ص: 109 ]
اعلم أن المقصود من هذا الكتاب الكريم جذب القلوب والأرواح عن الاشتغال بالخلق إلى الاستغراق في معرفة الحق ، فلما طال الكلام في تقرير الأحكام والجواب عن شبهات المبطلين عاد إلى إنارة القلوب بذكر ، فذكر هذه الآية . ما يدل على التوحيد والإلهية والكبرياء والجلال قال ابن عمر : قلت : أخبريني بأعجب ما رأيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبكت وأطالت ثم قالت : كل أمره عجب ، أتاني في ليلتي فدخل في لحافي حتى ألصق جلده بجلدي ، ثم قال لي : يا لعائشة هل لك أن تأذني لي الليلة في عبادة ربي ، فقلت : يا رسول الله إني لأحب قربك وأحب مرادك قد أذنت لك ، فقام إلى قربة من ماء في البيت فتوضأ ولم يكثر من صب الماء ، ثم قام يصلي ، فقرأ من القرآن وجعل يبكي ، ثم رفع يديه فجعل يبكي حتى رأيت دموعه قد بلت الأرض ، فأتاه عائشة بلال يؤذنه بصلاة الغداة فرآه يبكي ، فقال له : يا رسول الله أتبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ، فقال : يا بلال أفلا أكون عبدا شكورا ، ثم قال : ما لي لا أبكي وقد أنزل الله في هذه الليلة ( إن في خلق السماوات والأرض ) ثم قال : ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها . وروي : ويل لمن لاكها بين فكيه ولم يتأمل فيها . وعن علي رضي الله عنه : أن ويقول : إن في خلق السماوات والأرض النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من الليل يتسوك ثم ينظر إلى السماء . وحكي أن الرجل من بني إسرائيل كان إذا عبد الله ثلاثين سنة أظلته سحابة ، فعبدها فتى من فتيانهم فما أظلته السحابة ، فقالت له أمه : لعل فرطة صدرت منك في مدتك ، قال : ما أذكر ، قالت : لعلك نظرت مرة إلى السماء ولم تعتبر ، قال : نعم ، قالت : فما أتيت إلا من ذلك .
واعلم أنه تعالى ذكر هذه الآية في سورة البقرة ، وذكرها هنا أيضا ، وختم هذه الآية في سورة البقرة بقوله : ( لآيات لقوم يعقلون ) [ البقرة : 164 ] وختمها ههنا بقوله : ( لآيات لأولي الألباب ) وذكر في سورة البقرة مع هذه الدلائل الثلاثة خمسة أنواع أخرى ، حتى كان المجموع ثمانية أنواع من الدلائل ، وههنا اكتفى بذكر هذه الأنواع الثلاثة : وهي السماوات والأرض ، والليل والنهار ، فهذه أسئلة ثلاثة :
السؤال الأول : ما ؟ الفائدة في إعادة الآية الواحدة باللفظ الواحد في سورتين
والسؤال الثاني : لم اكتفى ههنا بإعادة ثلاثة أنواع من الدلائل وحذف الخمسة الباقية ؟
والسؤال الثالث : لم قال هناك : ( لقوم يعقلون ) [ البقرة : 164 ] وقال ههنا : ( لأولي الألباب ) ؟ .
فأقول والله أعلم بأسرار كتابه : إن سويداء البصيرة تجري مجرى سواد البصر ، فكما أن سواد البصر لا يقدر أن يستقصي في النظر إلى شيئين ، بل إذا حدق بصره نحو شيء تعذر عليه في تلك الحالة تحديق البصر نحو شيء آخر ، فكذلك ههنا إذا حدق الإنسان حدقة عقله نحو ملاحظة معقول امتنع عليه في تلك الحالة تحديق حدقة العقل نحو معقول آخر ، فعلى هذا كلما كان اشتغال العقل بالالتفات إلى المعقولات المختلفة أكثر ، كان حرمانه عن الاستقصاء في تلك التعقلات والإدراكات أكثر ، فعلى هذا ، السالك إلى الله لا بد له في أول الأمر من تكثير الدلائل ، فإذا استنار القلب بنور معرفة الله صار اشتغاله بتلك الدلائل كالحجاب له عن استغراق القلب في معرفة الله ، فالسالك في أول أمره كان طالبا لتكثير الدلائل ، فعند وقوع هذا النور في القلب يصير طالبا لتقليل الدلائل ، حتى إذا زالت الظلمة المتولدة من اشتغال القلب بغير الله كمل فيه تجلي أنوار معرفة الله ، وإليه الإشارة بقوله : ( فاخلع نعليك إنك بالوادي المقدس طوى ) [ طه : [ ص: 110 ] 12 ] والنعلان هما المقدمتان اللتان بهما يتوصل العقل إلى المعرفة ، فلما وصل إلى المعرفة أمر بخلعهما ، وقيل له : . إنك تريد أن تضع قدميك في وادي قدس الوحدانية فاترك الاشتغال بالدلائل
إذا عرفت هذه القاعدة ، فذكر في سورة البقرة ثمانية أنواع من الدلائل ، ثم أعاد في هذه السورة ثلاثة أنواع منها ، تنبيها على أن ، فكان الغرض من إعادة ثلاثة أنواع من الدلائل وحذف البقية ، التنبيه على ما ذكرناه . ثم إنه تعالى استقصى في هذه الآية الدلائل السماوية وحذف الدلائل الخمسة الباقية ، التي هي الدلائل الأرضية ، وذلك لأن الدلائل السماوية أقهر وأبهر ، والعجائب فيها أكثر ، وانتقال القلب منها إلى عظمة الله وكبريائه أشد ، ثم ختم تلك الآية بقوله : ( العارف بعد صيرورته عارفا لا بد له من تقليل الالتفات إلى الدلائل ليكمل له الاستغراق في معرفة المدلول لقوم يعقلون ) [ البقرة : 164 ] وختم هذه الآية بقوله : ( لأولي الألباب ) لأن العقل له ظاهر وله لب ، ففي أول الأمر يكون عقلا ، وفي كمال الحال يكون لبا ، وهذا أيضا يقوي ما ذكرناه ، فهذا ما خطر بالبال والله أعلم بأسرار كلامه العظيم الكريم الحكيم .