( ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا )
واعلم أن المراد : أن أحد عند التقاء الجمعين وفارقوا المكان وانهزموا قد عفا الله عنهم ، وفي الآية مسائل : القوم الذين تولوا يوم
[ ص: 42 ] المسألة الأولى : اختلفت الأخبار فيمن ثبت ذلك اليوم وفيمن تولى ، فذكر أن ثلث الناس كانوا مجروحين ، وثلثهم انهزموا ، وثلثهم ثبتوا ، واختلفوا في المنهزمين ، فقيل : إن بعضهم ورد محمد بن إسحاق المدينة وأخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل ، وهو سعد بن عثمان ، ثم ورد بعده رجال دخلوا على نسائهم ، وجعل النساء يقلن : عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تفرون وكن يحثين التراب في وجوههم ويقلن : هاك المغزل اغزل به ، ومنهم قال : إن المسلمين لم يعدوا الجبل . قال القفال : والذي تدل عليه الأخبار في الجملة أن نفرا منهم تولوا وأبعدوا ، فمنهم من دخل المدينة ، ومنهم من ذهب إلى سائر الجوانب ، وأما الأكثرون فإنهم نزلوا عند الجبل واجتمعوا هناك . ومن المنهزمين عمر ، إلا أنه لم يكن في أوائل المنهزمين ولم يبعد ، بل ثبت على الجبل إلى أن صعد النبي صلى الله عليه وسلم ، ومنهم أيضا عثمان انهزم مع رجلين من الأنصار يقال لهما سعد وعقبة ، انهزموا حتى بلغوا موضعا بعيدا ثم رجعوا بعد ثلاثة أيام ، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم " لقد ذهبتم فيها عريضة" وقالت فاطمة لعلي : ما فعل عثمان ؟ فنقصه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "يا علي أعياني أزواج الأخوات أن يتحابوا " وأما فكانوا أربعة عشر رجلا ، سبعة من الذين ثبتوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم المهاجرين ، وسبعة من الأنصار ، فمن المهاجرين أبو بكر ، وعلي وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيد الله وأبو عبيدة بن الجراح ، ومن والزبير بن العوام الأنصار الخباب بن المنذر وأبو دجانة وعاصم بن ثابت والحرث بن الصمة وسهل بن حنيف وأسيد بن حضير ، وذكر أن ثمانية من هؤلاء كانوا بايعوه يومئذ على الموت ثلاثة من وسعد بن معاذ المهاجرين : علي وطلحة والزبير ، وخمسة من الأنصار : أبو دجانة والحرث بن الصمة وخباب بن المنذر وعاصم بن ثابت وسهل بن حنيف ، ثم لم يقتل منهم أحد . وروى ابن عيينة أنه . أصيب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو من ثلاثين كلهم يجيء ويجثو بين يديه ويقول : وجهي لوجهك الفداء ، ونفسي لنفسك الفداء ، وعليك السلام غير مودع
المسألة الثانية : قوله : ( إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان ) هذا خطاب للمؤمنين خاصة يعني الذين انهزموا يوم أحد ( إنما استزلهم الشيطان ) أي حملهم على الزلة . وأزل واستزل بمعنى واحد ، قال تعالى : ( فأزلهما الشيطان عنها ) وقال : استزلهم طلب زلتهم ، كما يقال استعجلته أي طلبت عجلته ، واستعملته طلبت عمله . ابن قتيبة
المسألة الثالثة : قال الكعبي : الآية تدل على أن ، فإنه تعالى نسبها في هذه الآية إلى الشيطان وهو كقوله تعالى عن المعاصي لا تنسب إلى الله موسى : ( هذا من عمل الشيطان ) [القصص : 15] وكقول يوسف . ( من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي ) وكقول صاحب موسى : ( وما أنسانيه إلا الشيطان ) [الكهف : 63] .
المسألة الرابعة : أنه تعالى لم يبين أن الشيطان في أي شيء استزلهم ، وذلك لأن مع العفو لا حاجة إلى تعيين المعصية ، لكن العلماء جوزوا أن يكون المراد بذلك تحولهم عن ذلك الموضع ، بأن يكون رغبتهم في الغنيمة ، وأن يكون فشلهم في الجهاد وعدولهم عن الإخلاص ، وأي ذلك كان ، فقد صح أن الله تعالى عفا عنهم . وروي عثمان عوتب في هزيمته يوم أحد ، فقال إن ذلك وإن كان خطأ لكن الله عفا عنه ، وقرأ هذه الآية . أن
أما قوله تعالى : ( ببعض ما كسبوا ) ففيه وجهان :
أحدهما : أن الباء للإلصاق كقولك : كتبت بالقلم ، [ ص: 43 ] وقطعت بالسكين ، والمعنى أنه كان قد صدرت عنهم جنايات ، فبواسطة تلك الجنايات قدر الشيطان على استزلالهم ، وعلى هذا التقدير ففيه وجوه :
الأول : قال الزجاج : إنهم لم يتولوا على جهة المعاندة ولا على جهة الفرار من الزحف رغبة منهم في الدنيا ، وإنما ذكرهم الشيطان ذنوبا كانت لهم ، فكرهوا لقاء الله إلا على حال يرضونها ، وإلا بعد الإخلاص في التوبة ، فهذا خاطر خطر ببالهم وكانوا مخطئين فيه .
الثاني : أنهم لما أذنبوا بسبب مفارقة ذلك المكان أزلهم الشيطان بشؤم هذه المعصية وأوقعهم في الهزيمة ؛ لأن الذنب يجر إلى الذنب ، كما أن الطاعة تجر إلى الطاعة . ويكون لطفا فيها .
الثالث : لما أذنبوا بسبب الفشل ومنازعة بعضهم مع بعض وقعوا في ذلك الذنب .
والوجه الثاني : أن يكون المعنى : استزلهم الشيطان في بعض ما كسبوا ، لا في كل ما كسبوا ، والمراد منه بيان أنهم ما كفروا وما تركوا دينهم ، بل هذه زلة وقعت لهم في بعض أعمالهم .