اعلم أنه تعالى حكى هاهنا خمسة أنواع عيسى - عليه السلام - : من معجزات
النوع الأول
ما ذكره هاهنا في هذه الآية وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ حمزة " أني " بفتح الهمزة ، وقرأ نافع بكسر الهمزة ، فمن فتح " أني " فقد جعلها بدلا [ ص: 49 ] من " آية " كأنه قال : وجئتكم بأني أخلق لكم من الطين ، ومن كسر فله وجهان :
أحدهما : الاستئناف وقطع الكلام مما قبله .
والثاني : أنه فسر الآية بقوله : ( أني أخلق لكم ) ويجوز أن يفسر الجملة المتقدمة بما يكون على وجه الابتداء قال الله تعالى : ( وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات ) [ المائدة: 9 ] ثم فسر الموعود بقوله : ( لهم مغفرة ) [ المائدة: 9 ] وقال : ( إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم ) [ آل عمران : 59 ] ثم فسر المثل بقوله : ( خلقه من تراب ) [ آل عمران : 59 ] وهذا الوجه أحسن ؛ لأنه في المعنى كقراءة من فتح " أني " على جعله بدلا من " آية " .
المسألة الثانية : ( أخلق لكم من الطين ) أي أقدر وأصور وقد بينا في تفسير قوله تعالى : ( ياأيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم ) [ البقرة : 21 ] أن الخلق هو التقدير ولا بأس بأن نذكره هاهنا أيضا فنقول الذي يدل عليه القرآن والشعر والاستشهاد : أما القرآن فآيات : أحدها : قوله تعالى : ( فتبارك الله أحسن الخالقين ) [ المؤمنون : 14 ] أي المقدرين ؛ وذلك لأنه ثبت أن العبد لا يكون خالقا بمعنى التكوين والإبداع فوجب تفسير كونه خالقا بالتقدير والتسوية .
وثانيها : أن لفظ الخلق يطلق على الكذب قال تعالى في سورة الشعراء : ( إن هذا إلا خلق الأولين ) [ الشعراء : 137 ] وفي العنكبوت ( وتخلقون إفكا ) [ العنكبوت : 17 ] وفي سورة ص ( إن هذا إلا اختلاق ) [ ص : 7 ] والكاذب إنما سمي خالقا لأنه يقدر الكذب في خاطره ويصوره .
وثالثها : هذه الآية التي نحن في تفسيرها وهي قوله : ( أني أخلق لكم من الطين ) أي أصور وأقدر وقال تعالى في المائدة : ( وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير ) [ المائدة : 110 ] وكل ذلك يدل على أن الخلق هو التصوير والتقدير . ورابعها : قوله تعالى : ( هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ) [ البقرة : 29 ] وقوله : ( خلق ) إشارة إلى الماضي ، فلو حملنا قوله : ( خلق ) على الإيجاد والإبداع ، لكان المعنى : أن كل ما في الأرض فهو تعالى قد أوجده في الزمان الماضي ، وذلك باطل بالاتفاق ، فإذن وجب حمل الخلق على التقدير حتى يصح الكلام وهو أنه تعالى قدر في الماضي كل ما وجد الآن في الأرض ، وأما الشعر فقوله :
ولأنت تفري ما خلقت وبعـ ـض القوم يخلق ثم لا يفري
وقوله :
ولا يعطي بأيدي الخالق ولا أيدي الخوالق إلا جيد الأدم
وأما الاستشهاد : فهو أنه يقال : خلق النعل إذا قدرها وسواها بالقياس ، والخلاق المقدار من الخير ، وفلان خليق بكذا ، أي له هذا المقدار من الاستحقاق ، والصخرة الخلقاء الملساء ، لأن الملاسة استواء ، وفي الخشونة اختلاف ، فثبت أن الخلق عبارة عن التقدير والتسوية .
إذا عرفت هذا فنقول : اختلف الناس في لفظ " الخالق " قال أبو عبد الله البصري : إنه لا يجوز إطلاقه على الله في الحقيقة ؛ لأن التقدير والتسوية عبارة عن الظن والحسبان وذلك على الله محال ، وقال أصحابنا : الخالق ، ليس إلا الله ، واحتجوا عليه بقوله تعالى : ( الله خالق كل شيء ) [ الرعد : 16 ] ومنهم من احتج بقوله : ( هل من خالق غير الله يرزقكم ) [ فاطر : 3 ] وهذا ضعيف ، لأنه تعالى قال : ( هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء ) [ فاطر : 3 ] فالمعنى هل من خالق غير الله موصوف بوصف كونه رازقا من السماء ، ولا يلزم من صدق قولنا : الخالق الذي يكون هذا شأنه ، ليس إلا الله ، صدق قولنا إنه لا خالق إلا الله .
[ ص: 50 ] وأجابوا عن كلام أبي عبد الله بأن التقدير والتسوية عبارة عن العلم والظن لكن الظن وإن كان محالا في حق الله تعالى فالعلم ثابت .
إذا عرفت هذا فنقول : ( أني أخلق لكم من الطين ) معناه : أصور وأقدر وقوله : ( كهيئة الطير ) فالهيئة : الصورة المهيئة من قولهم : هيأت الشيء إذ قدرته ، وقوله : ( فأنفخ فيه ) أي في ذلك الطين المصور .