ومنهم الداعي المحابي أبو عبد الرحمن زهير بن نعيم البابي ، كان أغلب أحواله عليه الصبر واليقين ، فأيد بالنصر والتمكين .
أخبرنا عبد الله بن جعفر - فيما قرئ عليه وأذن لي فيه- ثنا أحمد بن عاصم قال : قال زهير بن نعيم : " ، فإن كان يقين ولم يكن معه صبر لم يتم ، وإن كان صبر ولم يكن معه يقين لم يتم ، وقد ضرب لهما إن هذا الأمر لا يتم إلا بشيئين : الصبر واليقين مثلا فقال : مثل اليقين والصبر مثل فدادين يحفران الأرض فإذا جلس واحد جلس الآخر " . أبو الدرداء
أخبرنا عبد الله ، ثنا أحمد بن عاصم ، قال : سمعت خالي عبد العزيز بن يوسف يقول : أردت الخروج من البصرة فبدأت بيحيى بن سعيد فودعته ، ثم ودعت ، ثم ودعت عبد الرحمن بن مهدي زهيرا ، فقلت : هل من حاجة؟ قال : نعم إلا أنها مهمة مهمة . . فلما وليت ردني فقال : وحاجة أخرى : لا تدخل على قاض ولا على من يدخل على القاضي ، فإني في هذا المصر منذ خمسين سنة ما نظرت إلى وجه قاض ولا وال . اتق الله فوالله لأن يتقيه رجل -أو قال عبد- أحب إلي من أن تتحول لي هذه السواري كلها ذهبا
أخبرنا عبد الله ، ثنا أحمد بن عاصم قال : كانت يدي في يد زهير أمشي معه فانتهينا إلى رجل مكفوف يقرأ فلما سمع قراءته وقف ونظر وقال : [ ص: 148 ] لا تغرنك قراءته ، والله والله إنه شر من الغناء وضرب العود - وكان مهيبا ولم أسأله يومئذ - فلما كان بعد أيام ارتفع إلى بني قشير فقمت وسلمت عليه ، فقلت : يا أبا عبد الرحمن إنك قلت لي يومئذ كذا وكذا ، فكأنه نصب عينيه فقال لي : يا أخي نعم ، ثم قال لأن يطلب الرجل هذه الدنيا بالزمر والغناء والعود خير من أن يطلبها بالدين زهير : لا أعلم أني توكلت على الله ساعة قط .
قال أحمد : وسمعت الحصين بن جميل يقول : سمعت زهيرا ، يقول : إن قدرت أن تكون عند الله أخس من كلب فافعل ، قال أحمد : وكتب إلينا - وكان بأصبهان الوباء والمجاعة - إن الموت كثير . وقال لي حصين : يا أبا يحيى تعالى حتى نرتفع إلى زهير فنخبره بما كتب إلينا ، فلعله يدعو لهم بدعوة فأتيته فأخبرته بما كتب إلينا من كثرة الموت ، فقال لي : ، ثم قال : حدثني لا تأمنن من الموت قلته ولا تخافن كثرته معدي عن رجل يكنى بأبي البغيل -وكان قد أدرك زمن الطاعون- قال : كنا نطوف في القبائل وندفن الموتى فلما كثروا لم نقو على الدفن ، فكنا ندخل الدار قد مات أهلها فنسد بابها قال : فدخلنا دارا ففتشناها فلم نجد فيها أحدا حيا ، قال : فسددنا بابها قال : فلما مضت الطواعين كنا نطوف في القبائل وننزع تلك السدة التي سددناها فنزعنا سدة ذلك الباب التي دخلناها ففتشناها فلم نجد أحدا حيا ، قال : فإذا نحن بغلام في وسط الدار طري دهين كأنه أخذ ساعتئذ من حجر أمه قال : ونحن وقوف على الغلام نتعجب منه ، قال : فدخلت كلبة من شق أو خرق في حائط قال : فجعلت تلوذ بالغلام والغلام يحبو إليها حتى مص من لبنها ، قال زهير : قال معدي : رأيت هذا الغلام في مسجد البصرة قد قبض على لحيته . قال : وكان زهير كثيرا ما يتمثل بهذا البيت :
حتى متى أنت في دنياك مشتغل وعامل الله عن دنياك مشغول
قال أحمد : وبلغني عن الباهلي ، قال : كنت أقود زهيرا فلما أردت أن أفارقه قلت له : أوصني ، قال : . قال إذا رأيت الرجل لا ينصف من نفسه ، فإن قدرت أن لا تراه فلا تراه أحمد : وكان زهير أصيب ببصره في آخر عمره فبلغني أن بعض إخوانه استقبله بعد ما أصيب ببصره فسلم عليه فقال : من الرجل ؟ [ ص: 149 ] فاسترجع الرجل فجزع جزعا شديدا ، فلما رأى زهير جزع الرجل قال له : أخي كانت معي كسرة فيها دانق فسقطت ، فكان فقدها أشد علي من ذهاب بصري .
قال أحمد : وبلغني أنه كان شاكيا ، فذهب يعوده فقيل له : يحيى بن أكثم ، فقال : وما أصنع به لو كان على حش من حشوش الأرض يحيى بن أكثم بالبصرة يكون خيرا له .
قال أحمد : ودخلت عليه يوما فقال لي : ألك أب ؟ قلت : لا ، قال : ألك أم ؟ قلت : لا ، قال : الله أكبر كم ترى يبقى فرع بعد أصل ؟ يا أخي عليك بالدعاء والابتهال لهما فإنه بلغني أن هكذا ورفع يديه . الله يرفع الوالدين بدعاء الولد لهما
قال أحمد : وأخبرني عبد الرحمن بن عمر ، قال : انتهى إلينا يوما رجل من هؤلاء الخبثاء القدرية فقال : يا أبا عبد الرحمن ، بلغني أنك زنديق ، فقال زهير : زنديق زنديق ، أما زنديق فلا ، ولكني رجل سوء " .
حدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر ، ثنا عبد الله بن محمد بن العباس ، ثنا سلمة بن شبيب ، ثنا سهل بن عاصم قال : سمعت إبراهيم يقول : سمعت رجلا ، يقول لزهير بن نعيم : ممن أنت يا أبا عبد الرحمن ؟ قال : " ممن أنعم الله عليه بالإسلام ، قال : إنما أريد النسب ، قال : ( فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون ) " .
حدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر ، ثنا عبد الله بن محمد بن العباس ، ثنا سلمة بن شبيب ، ثنا سهل بن عاصم قال : قلت لزهير بن نعيم : يا أبا عبد الرحمن ألك حاجة ؟ قال : نعم ، قلت : ما هي ؟ قال : " تتقي الله فوالله " . لأن تتقي الله أحب إلي من أن يصير هذا الحائط ذهبا
وبه ثنا سهل ، ثنا إبراهيم بن سعيد بن أنس قال : سمعت زهير بن نعيم يقول : " ، لأن يتوب رجل أحب إلي من أن يتحول سواري المسجد لي ذهبا " . لأن يتوب رجل أحب إلي من أن يرد الله إلي بصري
قال : وحدثنا سهل قال : سمعت عمشط بن زياد يقول : سمعت زهير بن نعيم يقول : حتى إنه ليخطئ فيحب أن الناس قد أخطئوا ، ولأن أسمع في [ ص: 150 ] جاري صوت ضرب أحب إلي من أن يقال لي : أخطأ فلان " . جالست الناس منذ خمسين سنة فما رأيت أحدا إلا وهو يتبع هواه
قال سهل : وسمعت من زهيرا يحلف بالله الذي لا إله إلا هو لأنا بمن لا يؤمن بالله أشبه مني بمن يؤمن بالله " فذكرت هذا القول لعشرة من سمع أهل الصفا فمنهم من بكى ، ومنهم من صاح ، ومنهم من انتفض ، ومنهم من بهت .
قال سهل : وسمعت زهيرا يقول : " " . وددت أن جسدي قرض بالمقارض وأن هذا الخلق أطاعوا الله
قال سهل : وحدثنا عبد الله بن عبد الغفار الكرماني قال : صعدت إلى زهير بن نعيم وقد سقط من سطحه وذلك بعدما ذهب بصره وهو متهشم الوجه بحال شديدة فقلت له : يا أبا عبد الرحمن ، كيف حالك ؟ قال : " على ما ترى وما يسرني بأني أشد من هذا الخلق ، " . هي الدنيا فلتصنع ما شاءت