لكن إذا ترك هذا الواجب فهل يعاقب عليه ويثاب على ما فعله من الصلاة ، أم يقال : إن الصلاة باطلة ، عليه إعادتها كأنه لم يفعلها ؟
هذا فيه نزاع بين العلماء .
وعلى هذا قوله صلى الله عليه وسلم : . إذا فعلت هذا فقد تمت صلاتك ، وما انتقصت من هذا فإنما انتقصت من صلاتك
فقد بين أن الكمال الذي نفي هو هذا التمام الذي ذكره [ ص: 55 ] النبي صلى الله عليه وسلم ، فإن التارك لبعض ذلك قد انتقص من صلاته بعض ما أوجبه الله فيها ، وكذلك قوله في الحديث الآخر : . فإذا فعل هذا فقد تمت صلاته
ويؤيد هذا : أنه أمره بأن يعيد الصلاة ولو كان المتروك مستحبا لم يأمره بالإعادة ، ولهذا يؤمر مثل هذا المسيء بالإعادة ، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم هذا ، لكن لو لم يعد وفعلها ناقصة فهل يقال : إن وجودها كعدمها بحيث يعاقب على تركها ؟ أو يقال : إنه يثاب على ما فعله ويعاقب على ما تركه ، بحيث يجبر ما تركه من الواجبات بما فعله من التطوع ؟ هذا فيه نزاع ، والثاني أظهر ؛ لما روى أبو داود عن وابن ماجه أنس بن حكيم الضبي قال : زياد - أو ابن زياد - فأتى المدينة ، فلقي رضي الله عنه قال : فنسبني فانتسبت له ، فقال : يا فتى ، ألا أحدثك حديثا ؟ قال : قلت : بلى يرحمك الله - قال أبا هريرة يونس : فأحسبه ذكره عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال : إن : الصلاة ، قال : يقول ربنا عز وجل لملائكته وهو أعلم : انظروا في صلاة عبدي ، أتمها أم نقصها ؟ فإن كانت تامة كتبت له تامة ، وإن كان انتقص منها شيئا قال : انظروا هل لعبدي من تطوع ؟ فإن كان له تطوع قال : أتموها من تطوعه ، ثم تؤخذ الأعمال على ذلكم " أول ما يحاسب الناس به يوم القيامة من أعمالهم . خاف رجل من
وفي لفظ عن رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أبي هريرة ، رواه إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله صلاته ، فإن صلحت فقد أفلح وأنجح ، وإن فسدت فقد خاب وخسر ، فإن انتقص من فريضته شيئا قال الرب : انظروا هل لعبدي من تطوع ؟ فكمل به ما [ ص: 56 ] انتقص من الفريضة ، ثم يكون سائر أعماله على هذا ، وقال : حديث حسن . الترمذي
وروى أيضا أبو داود عن وابن ماجه رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا المعنى قال : تميم الداري . ثم الزكاة مثل ذلك ، ثم تؤخذ الأعمال على حسب ذلك
وأيضا فعن رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أبي مسعود البدري ، رواه أهل السنن الأربعة ، وقال لا تجزئ صلاة الرجل حتى يقيم ظهره في الركوع والسجود : حديث حسن صحيح . الترمذي
فهذا صريح في أنه لا تجزئ الصلاة حتى يعتدل الرجل من الركوع وينتصب من السجود ، فهذا يدل على إيجاب . الاعتدال في الركوع والسجود
وهذه المسألة ، وإن لم تكن هي مسألة الطمأنينة ، فهي تناسبها وتلازمها .
وذلك : أن هذا الحديث نص صريح في وجوب الاعتدال ، فإذا وجب الاعتدال لإتمام الركوع والسجود فالطمأنينة فيهما أوجب .
وذلك : أن قوله : " " ، أي : عند رفعه رأسه منهما ، فإن إقامة الظهر تكون من تمام الركوع والسجود ؛ [ ص: 57 ] لأنه إذا ركع كان الركوع من حين ينحني إلى أن يعود فيعتدل ، ويكون السجود من حين الخرور من القيام أو القعود إلى حين يعود فيعتدل ، فالخفض والرفع هما طرفا الركوع والسجود وتمامهما ؛ فلهذا قال : " يقيم صلبه في الركوع والسجود " . يقيم ظهره في الركوع والسجود
ويبين ذلك : [ أن وجوب هذا من الاعتدالين كوجوب إتمام الركوع والسجود ] ، وهذا كقوله في الحديث المتقدم : ، فأخبر أن إقامة الصلب في الرفع من السجود لا في حال الخفض . ثم يكبر فيسجد فيمكن وجهه حتى تطمئن مفاصله وتسترخي ، ثم يكبر فيستوي قاعدا على مقعدته ويقيم صلبه
والحديثان المتقدمان بين فيهما وجوب هذين الاعتدالين ، ووجوب الطمأنينة ، لكن قال في الركوع والسجود والقعود : " " ، وقال في الرفع من الركوع : " حتى تطمئن راكعا وحتى تطمئن ساجدا وحتى تطمئن جالسا " ؛ لأن القائم يعتدل ويستوي وذلك مستلزم للطمأنينة . حتى تعتدل قائما وحتى تستوي قائما
وأما الراكع والساجد فليسا منتصبين ، وذلك الجالس لا يوصف بتمام الاعتدال والاستواء ، فإنه قد يكون فيه انحناء إما إلى أحد الشقين ولا سيما عند التورك ، وإما إلى أمامه ؛ لأن أعضاءه التي يجلس عليها منحنية غير مستوية ومعتدلة ، مع أنه قد روى أنه صلى الله عليه وسلم قال في الرفع من الركوع : " حتى تطمئن قائما . ابن ماجه
وعن علي بن شيبان الحنفي قال : ، لا صلاة لمن لا يقيم صلبه في الركوع والسجود رواه خرجنا حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعناه وصلينا خلفه فلمح بمؤخر عينه رجلا لا [ ص: 58 ] يقيم صلاته - يعني صلبه في الركوع والسجود - فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة قال : يا معشر المسلمين الإمام أحمد وفي رواية وابن ماجه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " للإمام أحمد . لا ينظر الله إلى رجل لا يقيم صلبه بين ركوعه وسجوده
وهذا يبين أن إقامة الصلب : هي الاعتدال في الركوع كما بيناه ، وإن كان طائفة من العلماء من أصحابنا وغيرهم فسروا ذلك بنفس الطمأنينة ، واحتجوا بهذا الحديث على ذلك وحده ، لا على الاعتدالين ، وعلى ما ذكرناه : فإنه يدل عليهما .
وروى في المسند عن الإمام أحمد أبي قتادة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ، قالوا : يا رسول الله كيف يسرق من صلاته ؟ قال : لا يتم ركوعها ولا سجودها أسوأ الناس سرقة الذي يسرق من صلاته ، أو قال : ، وهذا التردد في اللفظ ظاهره : أن المعنى المقصود من اللفظين واحد ، وإنما شك في اللفظ كما في نظائر ذلك . لا يقيم صلبه في الركوع والسجود
وأيضا : فعن عبد الرحمن بن شبل رضي الله عنه قال : أخرجه نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نقرة الغراب ، وافتراش السبع ، وأن يوطن الرجل المكان في المسجد كما يوطن البعير أبو داود والنسائي وابن ماجه .
[ ص: 59 ] وإنما جمع بين الأفعال الثلاثة وإن كانت مختلفة الأجناس ؛ لأنه يجمعها مشابهة البهائم في الصلاة ، فنهى عن مشابهة فعل الغراب ، وعما يشبه فعل السبع ، وعما يشبه فعل البعير ، وإن كان نقر الغراب أشد من ذينك الأمرين لما فيه من أحاديث أخر .
وفي الصحيحين عن قتادة عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ، لا سيما وقد بين في حديث آخر : " أنه من صلاة المنافقين " ، والله تعالى أخبر في كتابه أنه لن يقبل عمل المنافقين . اعتدلوا في الركوع والسجود ولا يبسطن أحدكم ذراعيه انبساط الكلب
فروى في صحيحه عن مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : أنس بن مالك ، فأخبر أن المنافق يضيع وقت الصلاة المفروضة ، ويضيع فعلها وينقرها ، فدل ذلك على ذم هذا وهذا ، وإن كان كلاهما تاركا للواجب . تلك صلاة المنافق ، يمهل حتى إذا كانت الشمس بين قرني شيطان قام فنقر أربعا ، لا يذكر الله فيها إلا قليلا
وذلك حجة واضحة في أن غير جائز ، وأنه من فعل من فيه نفاق والنفاق كله حرام ، وهذا الحديث حجة مستقلة بنفسها وهو مفسر لحديث قبله ، وقال الله تعالى : ( نقر الصلاة إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا ) [ النساء ] ، وهذا وعيد شديد لمن ينقر في صلاته فلا يتم ركوعه وسجوده بالاعتدال والطمأنينة .
[ ص: 60 ] والمثل الذي ضربه النبي صلى الله عليه وسلم من أحسن الأمثال ، فإن كما أن الغذاء قوت الجسد ، فإذا كان الجسد لا يتغذى باليسير من الأكل ، فالقلب لا يقتات بالنقر في الصلاة ، بل لا بد من صلاة تامة تقيت القلوب . الصلاة قوت القلوب