فصل
فأما الحالف بالنذر الذي هو مثل أن نذر اللجاج والغضب ، أو فعلي صيام ، يريد بذلك أن يمنع نفسه عن الفعل ، أو أن يقول : إن لم أفعل كذا فعلي الحج ، ونحوه . فمذهب أهل العلم من يقول : إذا فعلت كذا فعلي الحج ، أو فمالي صدقة أهل مكة والمدينة والبصرة والكوفة أنه يجزيه كفارة يمين ، وهو قول فقهاء الحديث كالشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد وغيرهم ، وهذا هو إحدى الروايتين عن ، وهو الرواية المتأخرة عنه . أبي حنيفة
ثم اختلف هؤلاء ، فأكثرهم قالوا : هو مخير بين الوفاء بما نذره وبين كفارة يمين ، وهذا قول والمشهور عن الشافعي أحمد ، ومنهم من [ ص: 316 ] قال : بل عليه الكفارة عينا ، كما يلزمه ذلك في اليمين بالله . وهو الرواية الأخرى عن أحمد وقول بعض أصحاب . وقال الشافعي مالك في الرواية الأخرى وطائفة : بل يجب الوفاء بهذا النذر . وأبو حنيفة
وقد ذكروا أن سئل عن هذه المسألة الشافعي بمصر فأفتى فيها بالكفارة ، فقال له السائل : يا أبا عبد الله هذا قولك ؟ فقال : قول من هو خير مني : . وذكروا أن عطاء بن أبي رباح عبد الرحمن بن القاسم حنث ابنه في هذه اليمين فأفتاه بكفارة يمين بقول . وقال : إن عدت أفتيك بقول الليث بن سعد مالك وهو الوفاء به ، ولهذا يفرع أصحاب مالك مسائل هذه اليمين على [ النذر ؛ لعمومات ] الوفاء بالنذر ، كقوله صلى الله عليه وسلم : " " ، ولأنه حكم جائز معلق بشرط ، فوجب عند ثبوت شرطه كسائر الأحكام ، والأول هو الصحيح . والدليل عليه مع ما سنذكره إن شاء الله من دلالة الكتاب والسنة ما اعتمده من نذر أن يطيع الله فليطعه وغيره . الإمام أحمد
قال في مسائله : سألت أبو بكر الأثرم أبا عبد الله عن الكعبة ؟ قال : كفارة يمين ، واحتج بحديث رجل قال : ماله في رتاج ، قال : وسمعت أبا عبد الله يسأل عن عائشة ، أو نحو هذه اليمين ، فقال : إذا حنث فكفارة يمين إلا أني لا أحمله على الحنث ما لم يحنث ، قل له لا يفعل ، قيل الرجل يحلف بالمشي إلى بيت الله ، أو الصدقة بالملك لأبي عبد الله : فإذا حنث كفر ؟ قال : نعم ، قيل له : أليس كفارة يمين ؟ قال : نعم ، قال : وسمعت أبا عبد الله يقول : في حديث ليلى بنت العجماء حين حلفت بكذا وكذا وكل مملوك لها حر ، [ ص: 317 ] فأفتيت بكفارة يمين . فاحتج بحديث ابن عمر حين أفتيا فيمن حلف بعتق جاريته وأيمان ، فقال : أما الجارية : فتعتق ، قال وابن عباس الأثرم : حدثنا ، حدثنا الفضل بن دكين حسن [ عبد الله ] بن أبي نجيح عن عطاء عن قالت : " من قال : مالي في [ رتاج ] عائشة الكعبة وكل مالي فهو هدي ، وكل مالي في المساكين ، فليكفر عن يمينه " .
وقال : حدثنا ، حدثنا عارم بن الفضل قال : قال أبي : حدثنا معتمر بن سليمان ، أخبرني بكر بن عبد الله أبو رافع قال : قالت مولاتي ليلى بنت العجماء : " كل مملوك لها محرر ، وكل مال لها هدي ، وهي يهودية ، وهي نصرانية ، إن لم تطلق امرأتك ، أو تفرق بينك وبين امرأتك ، قال : فأتيت وكانت إذا ذكرت امرأة زينب بنت أم سلمة بالمدينة فقيهة ذكرت زينب ، قال : فأتيتها فجاءت معي إليها ، فقالت : في البيت هاروت وماروت ؟ قالت : يا زينب جعلني الله فداك ؛ إنها قالت : كل مملوك لها محرر ، وكل مال لها هدي ، وهي يهودية ، وهي نصرانية ، فقالت : يهودية ونصرانية ؟ خلي بين الرجل وامرأته ، فأتيت حفصة أم المؤمنين ، فأرسلت إليها فأتتها فقالت : يا أم المؤمنين جعلني الله فداك ، إنها قالت : كل مملوك محرر وكل مال لها هدي ، وهي يهودية ، وهي نصرانية ، فقالت : يهودية ونصرانية ، خلي بين الرجل وبين امرأته . قال : فأتيت فجاء معي إليها فقام على الباب فسلم ، فقالت : بأبي أنت وبأبي أبوك ، فقال : أمن حجارة أنت ، أم من حديد أنت ؟ أم من أي شيء أنت ؟ أفتتك عبد الله بن عمر زينب وأفتتك أم المؤمنين فلم تقبلي فتياهما . قالت : يا أبا عبد الرحمن ، [ ص: 318 ] جعلني الله فداءك ، إنها قالت : كل مملوك لها حر ، وكل مال لها هدي وهي يهودية وهي نصرانية ، فقال : يهودية ونصرانية ؟ كفري عن يمينك وخلي بين الرجل وبين امرأته " . قال الأثرم : حدثنا عبد الله بن رجاء ، حدثنا عمران عن قتادة عن أن امرأة سألت زرارة بن أبي أوفى : " أن ابن عباس . فقال امرأة جعلت بردها عليها هديا إن لبسته : أفي غضب أم في رضا ؟ قالت : في غضب ، قال : إن الله تعالى لا يتقرب إليه بالغضب ، لتكفر عن يمينها " . وقال : حدثني ابن عباس ابن الطباع ، حدثنا عن أبو بكر بن عياش عن العلاء بن المسيب يعلى بن نعمان عن عكرمة عن رضي الله عنهما : " سئل عن الرجل جعل ماله في المساكين ؟ فقال : أمسك عليك مالك ، وأنفقه على عيالك ، واقض به دينك ، وكفر عن يمينك " . وروى ابن عباس الأثرم عن أحمد قال : حدثنا عبد الرزاق ، أنبأنا قال : سئل ابن جريج عطاء عن قال : يمين ، وعن رجل قال : علي ألف حجة ؟ قال : يمين ، وعن رجل قال : مالي هدي ؟ قال : يمين ، وعن رجل قال : مالي في المساكين قال : يمين ، وقال رجل قال : علي ألف بدنة ؟ أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا معمر عن قتادة عن الحسن في الرجل يقول : إن لم أفعل كذا وكذا فأنا محرم بحجة ؟ قالا : " ليس الإحرام إلا على من نوى الحج ، يمين يكفرها " . وقال وجابر بن زيد أحمد : حدثنا عبد الرزاق أنبأنا معمر عن عن أبيه قال : يمين يكفرها . وقال ابن طاوس : حدثنا حرب الكرماني ، حدثنا المسيب بن واضح يوسف [ بن السفر ] عن عن الأوزاعي قال : سألت عطاء بن أبي رباح عن الرجل يحلف بالمشي إلى بيت الله الحرام ، قال : إنما المشي على من نواه ، [ ص: 319 ] فأما من حلف في الغضب فعليه كفارة يمين . ابن عباس
وأيضا فإن الاعتبار في الكلام بمعنى الكلام لا بلفظه . وهذا الحالف ليس مقصوده قربة لله . وإنما مقصوده : الحض على فعل أو المنع منه . وهذا معنى اليمين ، فإن الحالف يقصد الحض على فعل شيء أو المنع منه ، ثم إذا علق ذلك الفعل بالله تعالى : أجزأته الكفارة ، فلأن تجزيه إذا علق به وجوب عبادة أو تحريم مباح بطريق الأولى ؛ لأنه إذا علقه بالله ثم حنث كان موجب حنثه أنه قد هتك أيمانه بالله ، حيث لم يف بعهده . وإذا علق به وجوب فعل أو تحريمه فإنما يكون موجب حنثه : ترك واجب أو فعل محرم . ومعلوم أن الحنث الذي موجبه خلل في التوحيد أعظم مما موجبه معصية من المعاصي . فإذا كان الله قد شرع الكفارة لإصلاح ما اقتضى الحنث فساده في التوحيد ونحو ذلك وجبره فلأن يشرع لإصلاح ما اقتضى الحنث فساده في الطاعة أولى وأحرى .
وأيضا فإنا نقول : إن موجب صيغة القسم مثل موجب صيغة التعليق ، والنذر نوع من اليمين ، وكل نذر فهو يمين . فقول الناذر : " لله علي أن أفعل " بمنزلة قوله : أحلف بالله لأفعلن ، موجب هذين القولين : التزام الفعل معلقا بالله .
والدليل على هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم : " النذر حلفة " ، فقوله : إن فعلت كذا فعلي الحج لله ، بمنزلة قوله : إن فعلت كذا فوالله لأحجن .
وطرد هذا : أنه إذا حلف ليفعلن برا لزمه فعله ، ولم يكن له أن يكفر ، فإن [ حلفه ] ليفعلنه نذر لفعله .
[ ص: 320 ] وكذلك طرد هذا : أنه إذا فقد حلف على فعلها ، بمنزلة ما لو قال : والله لأفعلن كذا ، ولو حلف بالله ليفعلن معصية أو مباحا لزمته كفارة يمين ، وكذلك لو قال : علي لله أن أفعل كذا . نذر ليفعلن معصية أو مباحا
ومن الفقهاء من أصحابنا وغيرهم من يفرق بين البابين .