فصل
وكان هديه صلى الله عليه وسلم أنه إذا صالح قوما فنقض بعضهم عهده ، وصلحه ، وأقرهم الباقون ، ورضوا به ، غزا الجميع ، وجعلهم كلهم ناقضين ، كما فعل بقريظة ، والنضير ، وبني قينقاع ، وكما فعل في أهل مكة ، فهذه سنته في أهل العهد ، وعلى هذا ينبغي أن يجري الحكم في أهل الذمة كما صرح به الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم ، وخالفهم أصحاب ، فخصوا الشافعي بمن نقضه خاصة دون من رضي به وأقر عليه ، وفرقوا بينهما بأن عقد الذمة أقوى وآكد ، ولهذا كان موضوعا على التأبيد ، بخلاف عقد الهدنة والصلح . نقض العهد
والأولون يقولون : لا فرق بينهما ، وعقد الذمة لم يوضع للتأبيد ، بل بشرط استمرارهم ودوامهم على التزام ما فيه ، فهو كعقد الصلح الذي وضع للهدنة بشرط التزامهم أحكام ما وقع عليه العقد ، قالوا : والنبي صلى الله عليه وسلم لم يوقت عقد الصلح والهدنة بينه وبين اليهود لما قدم المدينة ، بل أطلقه ما داموا كافين عنه ، غير محاربين له ، فكانت تلك ذمتهم ، غير أن الجزية لم يكن نزل فرضها بعد ، فلما نزل فرضها ، ازداد ذلك إلى الشروط المشترطة في العقد ، ولم يغير حكمه وصار [ ص: 124 ] مقتضاها التأبيد ، فإذا نقض بعضهم العهد ، وأقرهم الباقون ، ورضوا بذلك ، ولم يعلموا به المسلمين ، صاروا في ذلك كنقض أهل الصلح ، وأهل العهد والصلح سواء في هذا المعنى ، ولا فرق بينهما فيه ، وإن افترقا من وجه آخر يوضح هذا أن المقر الراضي الساكت إن كان باقيا على عهده وصلحه ، لم يجز قتاله ولا قتله في الموضعين ، وإن كان بذلك خارجا عن عهده وصلحه راجعا إلى حاله الأولى قبل العهد والصلح ، لم يفترق الحال بين عقد الهدنة وعقد الذمة في ذلك ، فكيف يكون عائدا إلى حاله في موضع دون موضع ، هذا أمر غير معقول . توضيحه : أن تجدد أخذ الجزية منه ، لا يوجب له أن يكون موفيا بعهده مع رضاه ، وممالأته ومواطأته لمن نقض ، وعدم الجزية يوجب له أن يكون ناقضا غادرا غير موف بعهده ، هذا بين الامتناع .
فالأقوال ثلاثة : النقض في الصورتين ، وهو الذي دلت عليه سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الكفار ، وعدم النقض في الصورتين ، وهو أبعد الأقوال عن السنة ، والتفريق بين الصورتين ، والأولى أصوبها ، وبالله التوفيق .
وبهذا القول أفتينا ولي الأمر لما أحرقت النصارى أموال المسلمين بالشام ودورهم ، وراموا إحراق جامعهم الأعظم حتى أحرقوا منارته ، وكاد - لولا دفع الله - أن يحترق كله ، وعلم بذلك من علم من النصارى ، وواطئوا عليه وأقروه ورضوا به ، ولم يعلموا ولي الأمر ، فاستفتى فيهم ولي الأمر من حضره من الفقهاء ، فأفتيناه بانتقاض عهد من فعل ذلك ، وأعان عليه بوجه من الوجوه ، أو رضي به ، وأقر عليه ، وأن حده القتل حتما ، لا تخيير للإمام فيه كالأسير بل صار القتل له حدا ، والإسلام لا يسقط القتل إذا كان حدا ممن هو تحت الذمة ، ملتزما لأحكام الله بخلاف الحربي إذا أسلم ، فإن الإسلام يعصم دمه وماله ، ولا يقتل بما فعله قبل الإسلام ، فهذا له حكم ، والذمي الناقض للعهد إذا أسلم له حكم آخر ، وهذا الذي ذكرناه هو الذي تقتضيه نصوص وأصوله ، ونص عليه شيخ الإسلام الإمام أحمد ابن تيمية قدس الله روحه ، وأفتى به في غير موضع .