( فصل ) :
وأما الذي يرجع إلى المؤدي فمنها سواء كان منصوصا عليه أو لا من جنس المال الذي وجبت فيه الزكاة أو من غير جنسه . أن يكون مالا متقوما على الإطلاق
والأصل أن كل مال يجوز التصدق به تطوعا يجوز أداء الزكاة منه وما لا فلا وهذا عندنا ، وعند لا يجوز الأداء المنصوص عليه وقد مضت المسألة غير أن المؤدى يعتبر فيه القدر والصفة في بعض الأموال وفي بعضها القدر دون الصفة وفي بعضها الصفة دون القدر وفي بعض هذه الجملة اتفاق وفي بعضها اختلاف . الشافعي
وجملة الكلام فيه أن مال الزكاة لا يخلو إما أن يكون عينا وإما أن يكون دينا ، والعين لا يخلو إما أن تكون مما لا يجري فيه الربا كالحيوان والعروض وإما أن يكون مما يجري فيه الربا كالمكيل والموزون .
فإن كان مما لا يجري فيه الربا فإن أدى المنصوص عليه من الشاة وبنت المخاض ونحو ذلك يراعى فيه صفة الواجب وهو أن يكون وسطا فلا يجوز الرديء إلا على طريق التقويم فبقدر قيمته وعليه التكميل ; لأنه لم يؤد الواجب ولو أدى الجيد جاز ; لأنه أدى الواجب وزيادة . فإن كان من السوائم
وإن أدى القيمة أدى قيمة الوسط فإن أدى قيمة الرديء لم يجز إلا بقدر قيمته وعليه التكميل .
ولو جاز ; لأن الحيوان ليس من أموال الربا والجودة في غير أموال الربا متقومة ألا ترى أنه يجوز بيع شاة بشاتين ؟ فبقدر الوسط يقع عن نفسه وبقدر قيمة الجودة يقع عن شاة أخرى أدى شاة واحدة سمينة عن شاتين وسطين تعدل قيمتها قيمة شاتين وسطين فإن أدى من النصاب ربع عشره يجوز كيفما كان النصاب ; لأنه أدى الواجب بكماله وإن أدى من غير النصاب فإن كان من جنسه يراعى فيه صفة الواجب من الجيد والوسط والرديء ولو أدى الرديء مكان الجيد والوسط لا يجوز إلا على طريق التقويم بقدره وعليه التكميل ; لأن العروض ليست من أموال الربا حتى يجوز بيع ثوب بثوبين فكانت الجودة فيها متقومة ; ولهذا لو أدى ثوبا جيدا عن ثوبين رديئين يجوز ، وإن كان من خلاف جنسه يراعى فيه قيمة الواجب حتى لو أدى أنقص منه لا يجوز إلا بقدره وإن كان من عروض التجارة فإن أدى ربع عشر النصاب يجوز كيفما كان ; لأنه أدى ما وجب عليه وإن أدى من غير النصاب فلا يخلو إما أن كان من جنس النصاب وإما أن كان من خلاف جنسه وإن كان مال الزكاة مما يجري فيه الربا من الكيلي والوزني بأن أدى الذهب عن الفضة أو [ ص: 42 ] الحنطة عن الشعير يراعى قيمة الواجب بالإجماع حتى لو أدى أنقص منها لا يسقط عنه كل الواجب بل يجب عليه التكميل ; لأن الجودة في أموال الربا متقومة عند مقابلتها بخلاف جنسها وإن كان المؤدى من جنس النصاب فقد اختلف فيه على ثلاثة أقوال قال فإن كان المؤدى من خلاف جنسه أبو حنيفة : إن المعتبر هو القدر لا القيمة ، وقال وأبو يوسف : المعتبر هو القيمة لا القدر ، وقال زفر : المعتبر ما هو أنفع للفقراء فإن كان اعتبار القدر أنفع فالمعتبر هو القدر كما قال محمد أبو حنيفة وإن كان اعتبار القيمة أنفع فالمعتبر هو القيمة كما قال وأبو يوسف . زفر
وبيان هذا في مسائل ، إذا كان يجوز أن تسقط عنه الزكاة في قول له مائتان قفيز حنطة جيدة للتجارة قيمتها مائتا درهم فحال عليها الحول فلم يؤد منها وأدى خمسة أقفزة رديئة أبي حنيفة ويعتبر القدر لا قيمة الجودة وعند وأبي يوسف محمد عليه أن يؤدي الفضل إلى تمام قيمة الواجب اعتبارا في حق الفقراء للقيمة عند وزفر واعتبارا للأنفع عند زفر والصحيح اعتبار محمد أبي حنيفة ; لأن الجودة في الأموال الربوية لا قيمة لها عند مقابلتها بجنسها ; لقول النبي صلى الله عليه وسلم { وأبي يوسف } إلا أن جيدها ورديئها سواء يقول : إن الجودة متقومة حقيقة وإنما سقط اعتبار تقومها شرعا لجريان الربا ، والربا اسم لمال يستحق بالبيع ولم يوجد والجواب أن المسقط لاعتبار الجودة وهو النص مطلق فيقتضي سقوط تقومها مطلقا إلا فيما قيد بدليل ، ولو كان محمدا لا يجوز إلا عن أربعة أقفزة منها ، وعليه أن يؤدي قفيزا آخر عند النصاب حنطة رديئة للتجارة قيمتها مائتا درهم فأدى أربعة أقفزة جيدة عن خمسة أقفزة رديئة أبي حنيفة وأبي يوسف اعتبارا للقدر دون القيمة عندهما واعتبارا للأنفع للفقراء عند ومحمد ، وعند محمد لا يجب عليه شيء آخر اعتبارا للقيمة عنده ، وعلى هذا إذا كان زفر جاز عند له مائتا درهم جيدة حال عليها الحول فأدى خمسة زيوفا أبي حنيفة ; لوجود القدر ولا يجوز عند وأبي يوسف محمد لعدم القيمة والأنفع ، ولو وزفر لا يجوز إلا عن أربعة دراهم وعليه درهم آخر عند أدى أربعة دراهم جيدة عن خمسة رديئة أبي حنيفة وأبي يوسف . ومحمد
وأما عند أبي حنيفة فلاعتبار القدر والقدر ناقص . وأبي يوسف
وأما عند فلاعتبار الأنفع للفقراء والقدر ههنا أنفع لهم ، وعلى أصل محمد يجوز لاعتبار القيمة ولو كان زفر فإن أدى من النصاب أدى ربع عشره ، وإن أدى من الجنس من غير النصاب يؤدي خمسة دراهم زكاة المائتين عند له قلب فضة أو إناء مصنوع من فضة جيدة وزنه مائتا درهم وقيمته لجودته وصياغته ثلاثمائة أبي حنيفة وعند وأبي يوسف محمد يؤدي زكاة ثلاثمائة درهم بناء على الأصل الذي ذكرنا ، وإن أدى من غير جنسة يؤدي زكاة ثلاثمائة وذلك سبعة دراهم ونصف بالإجماع ; لأن قيمة الجودة تظهر عند المقابلة بخلاف الجنس ، ولو أدى عنها خمسة زيوفا قيمتها أربعة دراهم جيدة جاز وسقطت عنه الزكاة عند وزفر أبي حنيفة ، وعند وأبي يوسف محمد عليه أن يؤدي الفضل إلى تمام قيمة الواجب وعلى هذا النذر إذا أوجب على نفسه صدقة قفيز حنطة جيدة فأدى قفيزا رديئا يخرج عن النذر في قول وزفر أبي حنيفة ، وعند وأبي يوسف محمد عليه أداء الفضل ولو وزفر لا يجوز إلا على النصف وعليه أن يتصدق بنصف آخر في قول أوجب على نفسه صدقة قفيز حنطة رديئة فتصدق بنصف قفيز حنطة جيدة تبلغ قيمته قيمة قفيز حنطة رديئة أصحابنا الثلاثة ، وفي قول لا شيء عليه غيره وهذا والزكاة سواء والأصل ما ذكرنا . زفر
ولو جاز ويخرج عن النذر كما في الزكاة وهذا بخلاف ما إذا أوجب على نفسه صدقة بشاتين فتصدق مكانهما بشاة واحدة تبلغ قيمتها قيمة شاتين إنه لا يجوز إلا عن واحدة منهما وعليه شاة أخرى ; لأن القربة هناك في نفس الإراقة لا في التمليك ، وإراقة دم واحد لا يقوم مقام إراقة دمين . أوجب على نفسه أن يهدي شاتين فأهدى مكانهما شاة تبلغ قيمتها قيمة شاتين
وكذا لو أوجب على نفسه عتق رقبتين فأعتق رقبة تبلغ قيمتها قيمة رقبتين لم يجز ; لأن الرقبة ثمة ليس في التمليك بل في إزالة الرق ، وإزالة رق واحد لا يقوم مقام إزالة رقين ولهذا لم يجز إعتاق رقبة واحدة وإن كانت سمينة إلا عن كفارة واحدة والله أعلم .
وإن كان مال الزكاة دينا فجملة الكلام فيه جائز بأن كان له مائتا درهم عين فحال عليها الحول فأدى خمسة منها ; لأنه أداء الكامل عن الكامل فقد أدى ما وجب عليه فيخرج عن الواجب . أداء العين عن العين
وكذا إذا بأن كان له مائتا درهم دين فحال عليها الحول ووجبت فيها الزكاة [ ص: 43 ] فأدى خمسة عينا عن الدين ; لأنه أداء الكامل عن الناقص ; لأن العين مال بنفسه ومالية الدين لاعتبار تعينه في العاقبة . أدى العين عن الدين
وكذا العين قابل للتمليك من جميع الناس والدين لا يقبل التمليك لغير من عليه الدين لا يجوز بأن كان له على فقير خمسة دراهم وله مائتا درهم عين حال عليها الحول فتصدق بالخمسة على الفقير ناويا عن زكاة المائتين ; لأنه أداء الناقص عن الكامل فلا يخرج عما عليه ، والحيلة في الجواز أن يتصدق عليه بخمسة دراهم عين ينوي عن زكاة المائتين ثم يأخذها منه قضاء عن دينه فيجوز ويحل له ذلك . ، وأداء الدين عن العين
وأما فإن كان عن دين يصير عينا لا يجوز بأن كان له على فقير خمسة دراهم دين وله على رجل آخر مائتا درهم فحال عليها الحول فتصدق بهذه الخمسة على من عليه ناويا عن زكاة المائتين ; لأن المائتين تصير عينا بالاستيفاء فتبين في الآخرة أن هذا أداء الدين عن العين وأنه لا يجوز لما بينا . أداء الدين عن الدين
وإن كان عن دين لا يصير عينا يجوز بأن كان له على فقير مائتا درهم دين فحال عليها الحول فوهب منه المائتين ينوي عن الزكاة ; لأن هذا دين لا ينقلب عينا فلا يظهر في الآخرة أن هذا أداء الدين عن العين فلا يظهر أنه أداء الناقص عن الكامل فيجوز هذا إذا كان من عليه الدين فقيرا فوهب المائتين له أو تصدق بها عليه فأما إذا كان غنيا فوهب أو تصدق فلا شك أنه سقط عنه الدين لكن هل يجوز وتسقط عنه الزكاة أم لا يجوز وتكون زكاتها دينا عليه ؟ ذكر في الجامع أنه لا يجوز ويكون قدر الزكاة مضمونا عليه وذكر في نوادر الزكاة أنه يجوز وجه رواية الجامع ظاهر ; لأنه دفع الزكاة إلى الغني مع العلم بحاله أو من غير تحر وهذا لا يجوز بالإجماع
وجه رواية النوادر أن الجواز ليس على معنى سقوط الواجب بل على امتناع الوجوب ; لأن الوجوب باعتبار ماليته وماليته باعتبار صيرورته عينا في العاقبة فإذا لم يصر تبين أنه لم يكن مالا والزكاة لا تجب فيما ليس بمال والله أعلم .