وأما بيان أن فقد اختلف في هذا الفصل ، قال أصحابنا : ينعقد بعاقد واحد إذا كانت له ولاية من الجانبين ، سواء كانت ولايته أصلية ، كالولاية الثابتة بالملك والقرابة ، أو دخيلة كالولاية الثابتة بالوكالة ; بأن كان العاقد مالكا من الجانبين كالمولى إذا زوج أمته من عبده ، أو كان وليا من الجانبين ، كالجد إذا زوج ابن ابنه الصغير من بنت ابنه الصغيرة ، والأخ إذا زوج بنت أخيه الصغيرة من ابن أخيه الصغير أو كان أصيلا ووليا كابن العم إذا زوج بنت عمه من نفسه ، أو كان وكيلا من الجانبين ، أو رسولا من الجانبين ، أو كان وليا من جانب ووكيلا من جانب آخر ، أو وكلت امرأة رجلا ليتزوجها من نفسه ، أو وكل رجل امرأة لتزوج نفسها منه ، وهذا مذهب النكاح هل ينعقد بعاقد واحد أو لا ينعقد إلا بعاقدين أصحابنا الثلاثة .
وقال : لا ينعقد النكاح بعاقد واحد أصلا . زفر
وقال : لا ينعقد إلا إذا كان وليا من الجانبين . الشافعي
ولقب المسألة أن الواحد هل يجوز أن يقوم بالنكاح من الجانبين أم لا ؟ ( وجه ) قول زفر أن ركن النكاح اسم لشطرين مختلفين وهو : الإيجاب والقبول ، فلا يقومان إلا بعاقدين كشطري البيع ، إلا أن والشافعي يقول في [ ص: 232 ] الولي ضرورة لأن النكاح لا ينعقد بلا ولي ، فإذا كان الولي متعينا فلو لم يجز نكاح المولية لامتنع نكاحها أصلا ، وهذا لا يجوز ، وهذه الضرورة منعدمة في الوكيل ونحوه ، ولنا قوله تعالى { الشافعي ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن } قيل نزلت هذه الآية في يتيمة في حجر وليها ، وهي ذات مال ( ووجه ) الاستدلال بالآية الكريمة أن قوله تعالى { لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن } خرج مخرج العتاب ، فيدل على أن الولي يقوم بنكاح وليته وحده ، إذ لو لم يقم وحده به لم يكن للعتاب معنى ، لما فيه من إلحاق العتاب بأمر لا يتحقق .
وقوله تعالى { وأنكحوا الأيامى منكم } أمر سبحانه وتعالى بالإنكاح مطلقا من غير فصل بين الإنكاح من غيره أو من نفسه ; ولأن الوكيل في باب النكاح ليس بعاقد بل هو سفير عن العاقد ومعبر عنه بدليل أن حقوق النكاح والعقد لا ترجع إلى الوكيل ، وإذا كان معبرا عنه وله ولاية على الزوجين ; فكانت عبارته كعبارة الموكل ; فصار كلامه ككلام شخصين فيعتبر إيجابه كلاما للمرأة ، كأنها قالت زوجت نفسي من فلان ، وقبوله كلاما للزوج ; كأنه قال قبلت فيقوم العقد باثنين حكما والثابت بالحكم ملحق بالثابت حقيقة .
وأما البيع فالواحد فيه إذا كان وليا يقوم بطرفي العقد ، كالأب يشتري مال الصغير لنفسه ، أو يبيع مال نفسه من الصغير ، أو يبيع مال ابنه الصغير من ابنه الصغير ، أو يشتري ، إلا أنه إذا كان وكيلا لا يقوم بهما ; لأن حقوق العقد مقتصرة على العاقد ، فلا يصير كلام العاقد كلام الشخصين ; ولأن حقوق البيع إذا كانت مقتصرة على العاقد وللبيع أحكام متضادة من التسليم والقبض والمطالبة ، فلو تولى طرفي العقد لصار الشخص الواحد مطالبا ومطلوبا ومسلما ومتسلما وهذا ممتنع - والله عز وجل أعلم - .