كثيرة جدا والأسباب المانعة من قبول الحق
فمنها : الجهل به ، وهذا السبب هو الغالب على أكثر النفوس ، فإن من جهل شيئا عاداه وعادى أهله ، فإن انضاف إلى هذا السبب بغض من أمره بالحق ومعاداته له وحسده كان المانع من القبول أقوى ، فإن انضاف إلى ذلك إلفه وعادته ومرباه على ما كان عليه آباؤه ومن يحبه ويعظمه قوي المانع ، فإن انضاف إلى ذلك توهمه أن الحق الذي دعي إليه يحول بينه وبين جاهه وعزه وشهواته وأغراضه قوي المانع من القبول جدا .
[ ص: 245 ] فإن انضاف إلى ذلك خوفه من أصحابه وعشيرته وقومه على نفسه وماله وجاهه كما وقع لهرقل ملك النصارى بالشام على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ازداد المانع من قبول الحق قوة ، فإن هرقل عرف الحق وهم بالدخول في الإسلام فلم يطاوعه قومه وخافهم على نفسه فاختار الكفر على الإسلام بعد ما تبين له الهدى ، كما سيأتي ذكر قصته إن شاء الله تعالى .
ومن أعظم هذه الأسباب : " الحسد " فإنه داء كامن في النفس ، ويرى الحاسد المحسود قد فضل عليه ، وأوتي ما لم يؤت نظيره ، فلا يدعه الحسد أن ينقاد له ويكون من أتباعه . وهل منع إبليس من السجود لآدم إلا الحسد ؟ ! فإنه لما رآه قد فضل عليه ورفع فوقه ، غص بريقه واختار الكفر على الإيمان بعد أن كان بين الملائكة .
وهذا الداء هو الذي منع اليهود من الإيمان بعيسى ابن مريم ، وقد علموا علما لا شك فيه أنه رسول الله جاء بالبينات ، والهدى فحملهم الحسد على أن اختاروا الكفر على الإيمان ، وأطبقوا عليه ، وهم أمة فيهم الأحبار والعلماء والزهاد والقضاة والملوك والأمراء .
هذا وقد جاء المسيح بحكم التوراة ولم يأت بشريعة تخالفها ولم يقاتلهم ، وإنما أتى بتحليل ما حرم عليهم تخفيفا ورحمة وإحسانا ، وجاء مكملا لشريعة التوراة ، ومع هذا فاختاروا الكفر كلهم على الإيمان ، فكيف يكون حالهم مع نبي جاء بشريعة مستقلة ناسخة لجميع الشرائع ، مبكتا لهم بقبائحهم ، ومناديا على فضائحهم ، ومخرجا لهم من ديارهم ، وقد قاتلوه وحاربوه ، وهو في ذلك كله ينصر عليهم ، ويظفر بهم ، ويعلو هو وأصحابه وهم معه دائما في سفال ، فكيف لا يملك الحسد والبغي قلوبهم ؟ وأين يقع حالهم معه من حالهم مع المسيح ، وقد أطبقوا على الكفر به من [ ص: 246 ] بعد ما تبين لهم الهدى ؟ وهذا السبب وحده كاف في رد الحق ، فكيف إذا انضاف إليه زوال الرئاسات والمأكل كما تقدم ؟
وقد قال - يا خال ، هل كنتم تتهمون المسور بن مخرمة - وهو ابن أخت أبي جهل محمدا قبل أن يقول ما قال ؟ فقال : يا ابن أختي ! والله لقد كان محمد فينا صادقا وهو شاب ، يدعى الأمين ، فما جربنا عليه كذبا قط ، قال : يا خال ! فما لكم لا تتبعونه ؟ ! قال : يا ابن أختي تنازعنا نحن وبنو هاشم الشرف ، فأطعموا وأطعمنا ، وسقوا وسقينا ، وأجاروا وأجرنا ، حتى إذا تجاثينا على الركب وكنا كفرسي رهان ، قالوا : منا نبي فمتى ندرك مثل هذه ؟
وقال الأخنس بن شريق يوم بدر لأبي جهل : يا أبا الحكم ! أخبرني عن محمد أصادق هو أم كاذب ؟ فإنه ليس هاهنا من قريش أحد غيري وغيرك يسمع كلامنا ؟ فقال أبو جهل : ويحك ! والله إن محمدا لصادق ، وما كذب محمد قط ، ولكن إذا ذهبت بنو قصي باللواء والحجابة والسقاية والنبوة فماذا يكون لسائر قريش ؟ .
وأما اليهود فقد كان علماؤهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ، قال : حدثني ابن إسحاق عاصم بن عمر ، عن قتادة ، عن شيخ من بني قريظة ، قال : هل تدري ما كان إسلام أسد وثعلبة ابني سعية وأسد بن عبيد ، لم يكونوا من بني قريظة ولا النضير كانوا فوق ذلك ، [ ص: 247 ] فقلت : لا ، قال : فإنه قدم علينا رجل من الشام من يهود ، يقال له : ابن الهيبان فأقام عندنا ، والله ما رأينا رجلا قط لا يصلي الخمس خيرا منه ، فقدم علينا قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بسنتين ، فكنا إذا قحطنا وقل عنا المطر نقول : يا ابن الهيبان ، اخرج فاستق لنا ، فيقول : لا والله حتى تقدموا أمام مخرجكم صدقة ، فنقول : كم ؟ فيقول صاعا من تمر ، أو مدين من الشعير ، فنخرجه ، ثم يخرج إلى ظاهر حرتنا ونحن معه نستقي ، فوالله ما يقوم من مجلسه حتى نمطر ونمر بالشعاب ، قد فعل ذلك مرة ولا مرتين ولا ثلاثة ، فحضرته الوفاة واجتمعنا إليه ، فقال : يا معشر يهود ! أترون ما أخرجني من أرض الخمر والخمير إلى أرض البؤس والجوع ؟ قالوا : أنت أعلم ، قال : فإني إنما خرجت أتوقع خروج نبي قد أظل زمانه ، هذه البلاد مهاجره ، فاتبعوه ولا تسبقن إليه إذا خرج ، يا معشر يهود ، فإنه يبعث بسفك الدماء وسبي الذراري والنساء ممن يخالفه ، فلا يمنعكم ذلك منه ، ثم مات ، فلما كانت الليلة التي فتحت فيها قريظة ، قال أولئك الثلاثة الفتية وكانوا شبانا أحداثا : يا معشر يهود ، إنه الذي ذكر لكم ابن الهيبان ، فقالوا : ما هو به ، قالوا : بلى والله إنه لصفته ، ثم نزلوا وأسلموا ، وخلوا أموالهم وأهليهم .
قال : وكانت أموالهم في الحصن مع المشركين فلما فتح ردت عليهم . ابن إسحاق
وقال : حدثني ابن إسحاق صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف ، عن [ ص: 248 ] محمود بن لبيد ، قال : كان بين أبنائنا يهودي فخرج على نادي قومه بني عبد الأشهل ذات غداة فذكر البعث والقيامة والجنة والنار والحساب والميزان ، فقال ذلك لأصحاب وثن لا يرون أن بعثا كائنا بعد الموت ، وذلك قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : ويحك يا فلان ! وهذا كائن ، أن الناس يبعثون بعد موتهم إلى داركم فيها جنة ونار ، ويجزون من أعمالهم ؟ ! فقال : نعم ، والذي يحلف به ، لوددت أن حظي من تلك النار أن توقدوا أعظم تنور في داركم تحمونه ثم تقذفوني فيه ، وتطبقونه علي ، وإني أنجو من النار غدا ، فقيل : يا فلان ، ما علامة ذلك ؟ قال : نبي يبعث من ناحية هذه البلاد وأشار بيده نحو مكة واليمن ، قالوا : فمتى نراه ؟ فرمى بطرفه فرآني ، وأنا مضطجع بفناء باب أهلي ، وأنا أحدث القوم ، فقال : إن يستنفذ هذا الغلام عمره يدركه ، فما ذهب الليل والنهار حتى بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم وأنه لحي بين أظهرنا ، فآمنا به وصدقناه وكفر به بغيا وحسدا ، فقلنا : يا فلان ، ألست قلت ما قلت ، وأخبرتنا به ؟ ! قال : ليس به .
قال : وحدثني ابن إسحاق عاصم بن عمر ، عن قتادة ، قال : حدثني أشياخ منا قالوا : لم يكن أحد من العرب أعلم بشأن رسول الله صلى الله عليه وسلم منا ، كان معنا يهود وكانوا أهل كتاب وكنا أصحاب وثن ، وكنا بلغنا منهم ما يكرهون ، قالوا إن نبيا مبعوثا الآن قد أظل زمانه نتبعه فنقتلكم قتل عاد وإرم ، فلما بعث الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم اتبعناه وكفروا به ففينا وفيهم أنزل الله عز وجل وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين .
وذكر الحاكم وغيره عن ، عن ابن أبي نجيح علي الأزدي ، قال كانت اليهود تقول : [ ص: 249 ] اللهم ابعث لنا هذا النبي يحكم بيننا وبين الناس .
وقال ، عن سعيد بن جبير : كانت ابن عباس يهود خيبر تقاتل غطفان ، فلما التقوا هزمت يهود خيبر ، فعاذت اليهود بهذا الدعاء : اللهم إنا نسألك بحق محمد النبي الأمي الذي وعدتنا أن تخرجه لنا في آخر الزمان إلا نصرتنا عليهم ، قال : فكانوا إذا التقوا دعوا بهذا الدعاء فهزموا غطفان ، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم كفروا به ، فأنزل الله تعالى : وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا يعني بك يا محمد فلعنة الله على الكافرين . يستفتحون : أي يستنصرون .
وذكر الحاكم وغيره أن بني النضير لما أجلوا من المدينة أقبل عمرو بن سعدى فأطاف بمنازلهم فرأى خرابها ، ففكر ثم رجع إلى بني قريظة فوجدهم في الكنيسة ، فنفخ في بوقهم فاجتمعوا ، فقال الزبير بن باطا : يا أبا سعيد ، أين كنت منذ اليوم فلم نرك - وكان لا يفارق الكنيسة وكان يتأله في اليهودية ، قال : رأيت اليوم عبرا اعتبرنا بها ، رأيت إخواننا قد جلوا بعد ذلك العز والخلد والشرف الفاضل والعقل البارع ، قد تركوا أموالهم وملكها غيرهم ، وخرجوا خروج ذل ، فلا والتوراة ما سلط هذا على قوم [ ص: 250 ] قط لله فيهم حاجة ، وقد أوقع قبل ذلك بابن الأشرف في عزة بنيانه في بيته آمنا ، وأوقع بابن شيبة سيدهم ، وأوقع ببني قينقاع فأجلاهم وهم حبر يهود وكانوا أهل عدة وسلاح ونجدة - فحصرهم فلم يخرج إنسان منهم رأسه حتى سباهم ، فكلم فيهم فتركهم على أن أجلاهم من يثرب . يا قوم ، قد رأيتم ما رأيتم فأطيعوني وتعالوا نتبع محمدا ، فوالله إنكم لتعلمون أنه نبي وقد بشرنا به وبأمره ابن الهيبان أبو عمير ، وابن حواس ، وهما أعلم يهود جاءا من بيت المقدس يتوكفان قدومه ، وأمرانا باتباعه وأمرانا أن نقرئه منهما السلام ، ثم ماتا على دينهما ، ودفناهما بحرتنا ، فأسكت القوم فلم يتكلم منهم متكلم ، فأعاد هذا الكلام ونحوه ، وخوفهم بالحرب والسباء والجلاء ، فقال الزبير بن باطا : قد – والتوراة - قرأت صفته في كتاب التوراة التي أنزلت على موسى ، ليس في المثاني التي أحدثنا ، فقال له كعب بن أسيد : ما يمنعك يا أبا عبد الرحمن من اتباعه ؟ قال : أنت ، قال : ولم ؟ فوالتوراة ما حلت بينك وبينه قط ؟ قال الزبير : أنت صاحب عهدنا وعقدنا ، فإن اتبعته اتبعناه ، وإن أبيت أبيناه ، فأقبل عمرو بن سعد علي فذكر ما تقاولا به في ذلك إلى أن قال كعب : ما عندي في ذلك إلا ما قلت ، ما تطيب نفسي أن أصير تابعا .
وهذا المانع هو الذي منع فرعون من اتباع موسى عليه الصلاة والسلام ، فإنه لما تبين له الهدى عزم اتباع موسى ، فقال له وزيره هامان : بينا أنت إله تعبد تصبح تعبد ربا ، تعبد غيرك ، قال : صدقت .
[ ص: 251 ] وذكر عن ابن إسحاق ، قال : حدثت عن عبد الله بن أبي بكر ، أنها قالت : كنت أحب ولد أبي إليه وإلى عمي صفية بنت حيي بن أخطب أبي ياسر ، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة غدوا عليه ، ثم جاءا من العشي ، فسمعت عمي يقول لأبي : أهو هو ؟ قال : نعم ، قال : أتعرفه وتثبته ؟ ، قال نعم ، قال : فما في نفسك منه ، قال : عدواته والله ما بقيت . فهذه الأمة الغضبية معروفة بعداوة الأنبياء قديما ، وأسلافهم وأحبارهم قد أخبر الله سبحانه وتعالى عن أذاهم لموسى ، ونهانا عن التشبه بهم في ذلك ، فقال : ياأيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها .
وأما خلفهم فهم اليهود : قتلوا قتلة الأنبياء زكريا وابنه يحيى ، وخلقا كثيرا من الأنبياء ، حتى قتلوا في يوم سبعين نبيا ، وأقاموا السوق في آخر النهار كأنهم لم يصنعوا شيئا . واجتمعوا على قتل المسيح وصلبه فصانه الله تعالى وأكرمه أن يهينه على أيديهم ، وألقى شبهه على غيره فقتلوه وصلبوه . وراموا قتل خاتم النبيين مرارا عديدة ، والله يعصمه منهم .
ومن كان هذا شأنهم لا يكثر عليهم اختيار الكفر على الإيمان لسبب من الأسباب التي ذكرنا بعضها ، أو سببين أو أكثر . وقد ذكرنا اتفاق أمة الضلال وعباد الصليب على مسبة رب العالمين أقبح مسبة ، وعلى ما يعلم بطلانه من أول وهلة ، لم يكثر على تلك العقول السخيفة أن تسب بشرا أرسله الله تعالى ، وتجحد نبوته ، وتكابر ما دل عليه صريح العقل من صدقه وصحة رسالته ، فلو قالوا فيه ما قالوا لم يبلغ بعض قولهم في رب الأرض والسماوات الذي صاروا فيه ضحكة بين جميع بني آدم .
[ ص: 252 ] فأمة أطبقت على أن الإله الحق - سبحانه وتعالى عما يقولون - صلب وصفع وسمر ووضع الشوك على رأسه ، ودفن في التراب ، ثم قام في اليوم الثالث وصعد وجلس على كرسيه يدبر أمر السماوات والأرض ، لا يكثر عليها أن تطبق على جحد نبوة من جاء بسبها ولعنها ومحاربتها وإبداء معايبها والنداء على كفرها بالله ورسوله ، والشهادة على براءة المسيح منها ، ومعاداته لها ، ثم قاتلها وأذلها وأخرجها من ديارها وضرب عليها الجزية ، وأخبر أنها من أهل الجحيم خالدة مخلدة لا يغفر الله لها ، وأنها شر من الحمير ، بل هي شر الدواب عند الله .
وكيف ينكر على أمة أطبقت على صلب معبودها وإلهها ، ثم عمدت إلى الصليب فعبدته وعظمته ، وكان ينبغي لها أن تحرق كل صليب تقدر على إحراقه ، وأن تهينه غاية الإهانة إذ صلبت عليه إلهها الذي يقولون تارة : إنه الله ، وتارة يقولون إنه ابنه ، وتارة يقولون ثالث ثلاثة ؟ فجحدت حق خالقها وكفرت به أعظم كفر وسبته أقبح مسبة ، أن تجحد حق عبده ورسوله وتكفر به .
وكيف يكثر على أمة قالت في رب الأرض والسماوات ، إنه نزل من السماء ليكلم الخلق بذاته لئلا يكون لهم حجة عليه ، فأراد أن يقطع حجتهم بتكلمه لهم بذاته ; لترتفع المعاذير عمن ضيع عهده بعد ما كلمه بذاته ؟ فهبط بذاته من السماء ، والتحم في بطن مريم ، فأخذ منها حجابا ، وهو مخلوق من طريق الجسم ، وخالق من طريق النفس ، وهو الذي خلق جسمه وخلق أمه ، وأمه كانت قبله بالناسوت ، وهو كان من قبلها باللاهوت ، وهو الإله التام ، والإنسان التام ، ومن تمام رحمته تبارك وتعالى على عباده أنه رضي بإراقة دمه عنهم على خشبة الصليب ، فمكن أعداءه اليهود من نفسه ; ليتم سخطه [ ص: 253 ] عليهم ، فأخذوه وصلبوه وصفعوه وبصقوا في وجهه ، وتوجوه بتاج من الشوك على رأسه ، وغار دمه في إصبعه لأنه لو وقع منه شيء إلى الأرض ليبس كل ما في وجهها ، فثبت في موضع صلبه النوار .
ولما لم يكن في الحكمة الإلهية أن ينتقم الله من عبده العاصي الذي ظلمه ، واستهان بقدره ، لاعتلاء منزلة الرب ، وسقوط منزلة العبد ، أراد سبحانه أن ينتصف من الإنسان الذي هو إله مثله ، فانتصف من خطيئة آدم بصلب عيسى المسيح ، الذي هو إله مساو له في الإلهية ، فصلب ابن الله الذي هو الله في الساعة التاسعة من يوم الجمعة . هذه ألفاظهم في كتبهم .
فأمة أطبقت على هذا في معبودها ، كيف يكثر عليها أن تقول في عبده ورسوله أنه ساحر وكاذب وملك مسلط ونحو هذا ؟
ولهذا قال بعض ملوك الهند : أما النصارى فإن كان أعداؤهم من أهل الملل يجاهدونهم بالشرع فأنا أرى جهادهم بالعقل ، وإن كنا لا نرى قتال أحد ، لكني أستثني هؤلاء القوم من جميع العالم ، لأنهم قصدوا مضادة العقل وناصبوه العداوة وشذوا عن جميع مصالح العالم الشرعية والعقلية الواضحة ، واعتقدوا كل مستحيل ممكنا ، وبنوا من ذلك شرعا لا يؤدي إلى صلاح نوع من أنواع العالم ، ولكنه يصير العاقل إذا شرع به [ ص: 254 ] أخرق ، والرشيد سفيها ، والحسن قبيحا ، والقبيح حسنا ، لأن من كان في أصل عقيدته التي جرى نشؤه عليها الإساءة إلى الخلاق ، والنيل منه ، وسبه أقبح مسبة ، ووصفه بما يغير صفاته الحسنى ، وأخلق به أن يستهل الإساءة إلى مخلوق ، وأن يصفه بما يغير صفاته الجميلة .
ولو لم تجب مجاهدة هؤلاء القوم إلا لعموم أضرارهم التي لا تحصى وجوهه ، كما يجب قتل الحيوان المؤذي بطبعه ، لكانوا أهلا لذلك .
والمقصود أن الذي اختاروا هذه المقالة في رب العالمين ، على تعظيمه وتنزيهه وإجلاله ووصفه بما يليق به ، الذين اختاروا الكفر بعبده ورسوله وجحدوا نبوته ، والذين اختاروا عبادة صور خطوها بأيديهم في الحيطان ، مزوقة بالأحمر والأصفر والأزرق ، لو دنت منها الكلاب لبالت عليها ، فأعطوها غاية الخضوع والذل والخشوع والبكاء ، وسألوها المغفرة والرحمة والرزق والنصر ، هم الذين اختاروا التكذيب بخاتم الرسل على الإيمان به وتصديقه واتباعه ، والذين نزهوا مطارنتهم وبتاركتهم عن الصاحبة والولد ، ونحوهما للفرد الصمد ، هم الذين أنكروا نبوة عبده وخاتم رسله . والذين اختاروا صلاة يقوم أعبدهم وأزهدهم إليها ، والبول على ساقه وأفخاذه فيستقبل الشرق ثم يصلب على وجهه ، ويعبد الإله المصلوب ، ويستفتح الصلاة بقوله : يا أبانا أنت الذي [ ص: 255 ] في السماوات تقدس اسمك وليأت ملكك ولتكن إرادتك في السماء مثلها في الأرض أعطنا خبزنا الملائم لنا .
ثم يحدث إلى من هو إلى جانبه ، وربما سأله عن سعر الخمر والخنزير ، وعما كسب في القمار ، وعما طبخ في بيته ، وربما أحدث وهو في صلاته ، ولو أراد لبال في موضعه إن أمكنه ، ثم يدعو تلك الصورة التي هي صنعة يد الإنسان . فالذين اختاروا هذه الصلاة على صلاة من إذا قام إلى صلاته طهر أطرافه وثيابه وبدنه من النجاسة ، واستقبل بيته الحرام ، وكبر الله وحمده وسبحه ، وأثنى عليه بما هو أهله ، ثم ناجاه بكلامه المتضمن لأفضل الثناء عليه وتحميده وتمجيده وتوحيده ، وإفراده بالعبادة والاستعانة ، وسؤاله أجل مسئول ، وهو الهداية إلى طريق رضاه ، التي خص بها من أنعم عليه دون طريق الأمتين : المغضوب عليهم وهم اليهود ، والضالين وهم النصارى ، ثم أعطى كل جارحة من الجوارح حظها من الخشوع والخضوع والعبودية مع غاية التحميد والثناء لله رب العالمين ، لا يلتفت عن معبوده بوجهه ، ولا قلبه ، ولا يكلم أحدا كلمة ، بل قد فرغ قلبه لمعبوده ، وأقبل عليه بقلبه ووجهه ، لا يحدث في صلاته ، ولا يجعل بين عينيه صورة مصنوعة يدعوها ويتضرع إليها . فالذين اختاروا تلك الصورة التي هي في الحقيقة استهزاء بالمعبود ، لا يرضاها المخلوق لنفسه ، فضلا أن يرضى بها الخالق على هذه الصلاة ، التي لو عرضت على من له أدنى مسكة من عقل لظهر له التفاوت بينهما . وهم الذين اختاروا التكذيب بخاتم الرسل محمد رسوله وعبده على الإيمان به وتصديقه واتباعه .
والعاقل إذا وازن بين ما اختاروا ورغبوا فيه ، وبين ما رغبوا عنه ، تبين له أن القوم [ ص: 256 ] اختاروا الضلالة على الهدى والغي على الرشاد ، والقبيح على الحسن ، والباطل على الحق ، وأنهم اختاروا من العقائد أبطلها ، ومن الأعمال أقبحها وأطبق على ذلك أساقفتهم وبتاركتهم ورهبانهم فضلا عن عوامهم .
( فصل ) : ولم يقل أحد من المسلمين إن من ذكرتم من صغير وكبير وذكر وأنثى وحر وعبد وراهب وقسيس ، كلهم تبين له الهدى ، بل أكثرهم جهال بمنزلة الدواب السائمة ، معرضون عن طلب الهدى فضلا عن تبيينه لهم ، وهم مقلدون لرؤسائهم وكبرائهم وعلمائهم - وهم أقل القليل وهم الذين اختاروا الكفر على الإيمان بعد تبين الهدى .
وأي إشكال يقع للعقل في ذلك ؟ فلم يزل في الناس من يختاره حسدا مع علمه ببطلانه كبرا ، والباطل منهم يختاره جهلا وتقليدا لمن يحسن الظن به ، ومنهم من يختاره حسدا وبغيا ، ومنهم من يختاره طمعا ورغبة في مأكل أو جاه ورئاسة ، ومنهم من يختاره محبة في صورة وعشقا ، ومنهم من يختاره خشية ، ومنهم من يختاره علوا ، ومنهم من يختاره راحة ودعة ، فلم تحصر أسباب اختيار الكفر في حب الرئاسة والمأكلة .