وهو الذي يرى دبيب الذر في الظلمات فوق صم الصخر [ ص: 234 ] وسامع للجهر والإخفات
بسمعه الواسع للأصوات
في هذين البيتين إثبات البصر لله - تعالى - المحيط بجميع المبصرات ، وإثبات السمع له المحيط بجميع المسموعات ، وهاتان الصفتان من صفات ذاته - تعالى - وهما متضمن اسميه " السميع البصير " ، قال الله عز وجل : ( إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا ) ، ( النساء : 58 ) ، وقال تعالى : ( ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ) ، ( الشورى : 11 ) ، وقال تعالى : ( ذلك بأن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وأن الله سميع بصير ) ، ( الحج : 61 ) ، وقال تعالى : ( قل الله أعلم بما لبثوا له غيب السماوات والأرض أبصر به وأسمع ) ، ( الكهف : 26 ) .
قال : وذلك بمعنى المبالغة في المدح ، كأنه قيل ما أبصره وأسمعه ، وتأويل الكلام ما أبصر الله لكل موجود ، وما أسمعه لكل مسموع ، لا يخفى عليه من ذلك شيء ، ثم روى عن ابن جرير قتادة في قوله تعالى : ( أبصر به وأسمع ) فلا أحد أبصر من الله ولا أسمع ، وقال ابن زيد : ( أبصر به وأسمع ) يرى أعمالهم ، ويسمع ذلك منهم ، إنه كان سميعا بصيرا .
وقال البغوي رحمه الله تعالى : أي ما أبصر الله بكل موجود وأسمعه لكل مسموع ، أي لا يغيب عن سمعه وبصره شيء . وقال - تعالى - لموسى وهارون - عليهما السلام : ( إنني معكما أسمع وأرى ) ، ( طه : 46 ) ، قال رضي الله عنهما : أسمع دعاءكما فأجيبه ، وأرى ما يراد بكما فأمنعه ، لست بغافل عنكما ، فلا تهتما . ابن عباس
وقال - تعالى - لهما في موضع آخر : ( كلا فاذهبا بآياتنا إنا معكم مستمعون ) ، ( الشورى : 15 ) ، وقال تعالى : ( أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون ) ، ( الزخرف : 80 ) ، وقال تعالى : ( وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ) ، ( التوبة : 105 ) ، وقال [ ص: 235 ] تعالى : ( ألم يعلم بأن الله يرى ) ، ( العلق : 14 ) ، وقال تعالى : ( الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين إنه هو السميع العليم ) ، ( الشعراء : 218 ، 219 ، 220 ) ، وقال تعالى : ( لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا ) ، ( آل عمران 181 ) ، وقال تعالى : ( قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير ) ، ( المجادلة : 1 ) ، وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت : الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات ، لقد جاءت المجادلة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - تكلمه ، وأنا في ناحية البيت ما أسمع ما تقول ، فأنزل الله عز وجل : ( قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير ) . رواه في كتاب التوحيد تعليقا ، وأخرجه البخاري ، النسائي ، وابن ماجه ، وابن جرير ، وفي رواية له عنها - رضي الله عنها - أنها قالت : تبارك الذي أوعى سمعه كل شيء ، إني لأسمع كلام وابن أبي حاتم خولة بنت ثعلبة ويخفى علي بعضه ، وهي تشتكي زوجها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي تقول : يا رسول الله ، أكل مالي ، وأفنى شبابي ، ونثرت له بطني ، حتى إذا كبرت سني وانقطع ولدي ظاهر مني ، اللهم إني أشكو إليك . قالت : فما برحت حتى نزل جبريل بهذه الآية : ( قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما ) ، قالت : وزوجها أوس بن الصامت . وقال - رحمه الله تعالى - في كتاب التوحيد : باب قول الله تعالى : ( البخاري وكان الله سميعا بصيرا ) ، وذكر خبر عائشة هذا معلقا .
وروي عن أبي موسى - رضي الله عنه - قال : ، قل لا حول ولا قوة إلا بالله ، فإنها كنز من كنوز الجنة عبد الله بن قيس . كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر ، فكنا إذا علونا كبرنا ، فقال : أربعوا على أنفسكم [ ص: 236 ] فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا ، تدعون سميعا بصيرا قريبا ، ثم أتى علي وأنا أقول في نفسي : لا حول ولا قوة إلا بالله ، فقال : يا
وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت : قال النبي صلى الله عليه وسلم : جبريل - عليه السلام - ناداني ، قال : إن الله سمع قول قومك وما ردوا عليك . وروي في باب قوله تعالى : ( إن وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون ) ، ( فصلت : 22 ) ، عن عبد الله - رضي الله عنه - قال : اجتمع عند البيت ثقفيان وقرشي ، أو قرشيان وثقفي ، كثيرة الشحم بطونهم ، قليلة الفهم قلوبهم ، فقال أحدهم : أترون أن الله يسمع ما نقول ؟ قال الآخر : يسمع إن جهرنا ، ولا يسمع إن أخفينا . وقال الآخر : إن كان يسمع إذا جهرنا ، فإنه يسمع إذا أخفينا . فأنزل الله تعالى : ( وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ) الآية .
وروى أبو داود ، - رضي الله عنه - أنه قرأ هذه الآية ( أبي هريرة إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ) . . . إلى قوله تعالى : ( سميعا بصيرا ) ، قال : رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يضع إبهامه على أذنه والتي تليها على عينه ، عن رضي الله عنه : رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرؤها ويضع إصبعيه أبو هريرة . قال قال ابن يونس : قال المقرئ : يعني ( إن الله سميع بصير ) يعني أن لله سمعا وبصرا . قال أبو داود رحمه الله تعالى : وهذا رد على الجهمية اهـ .
قلت : يعني أبو داود - رحمه الله - أن الجهمية لا يثبتون لله - تعالى - اسما ولا [ ص: 237 ] صفة مما سمى ووصف نفسه - تعالى - به ، وأثبته له رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلا يثبتون أن الله هو السميع البصير ، ولا أنه يسمع ويرى ويبصر ، فرارا بزعمهم من التشبيه بالمخلوقين ، فنزهوه عن صفات كماله التي وصف بها نفسه ، وهو أعلم بنفسه وبغيره ، وشبهوه بالأصنام التي لا تسمع ولا تبصر ، قال الله - عز وجل - عن خليله إبراهيم - عليه السلام - في دعوته أباه إلى الله عز وجل : ( ياأبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا ) ، ( مريم : 42 ) . وقد أثبت الجهمية - قبحهم الله - حجة لعباد الأصنام ، وجوابا لإنكار خليل الله وجميع رسله عليهم ، فكان للكفار أن يقولوا : ومعبودكم أيضا لا يسمع ولا يبصر ، تعالى الله عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا .
وقالت المعتزلة : سميع بلا سمع ، بصير بلا بصر ، وأطردوا جميع أسمائه هكذا ، فأثبتوا أسماء ونفوا ما تتضمنه من صفات الكمال ، وهو عبارة عن إثبات الألفاظ دون المعاني ، وقولهم في الحقيقة راجع إلى قول الجهمية ، مخالف كل منهما للكتاب والسنة والعقول الصحيحة والفطر السليمة ، وهدى الله - تعالى - بفضله أهل السنة لفهم كتابه ، وآمنوا بما وصف به نفسه ، وأقروا به كما أخبر ونفوا عنه التشبيه ، كما جمع - تعالى - بينهما في قوله عز وجل : ( ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ) .