إذا ثبت هذا انتقلنا منه إلى معنى آخر : وهو أن المحرم ينقسم في الشرع إلى ما هو صغيرة وإلى ما هو كبيرة ـ حسبما تبين في علم الأصول الدينية ـ فكذلك يقال في : إنها تنقسم إلى الصغيرة والكبيرة اعتبارا بتفاوت درجاتها ـ كما تقدم ـ وهذا على القول بأن المعاصي تنقسم إلى الصغيرة والكبيرة . ولقد اختلفوا في الفرق بينهما على أوجه وجميع ما قالوه لعله لا يوفي بذلك المقصود على الكمال فلنترك التفريع عليه . البدع المحرمة
وأقرب وجه يلتمس لهذا المطلب ما تقرر في كتاب الموافقات أن الكبائر منحصرة في الإخلال بالضروريات المعتبرة في كل ملة . وهي الدين والنفس والنسل والعقل والمال ، وكل ما نص عليه راجع إليها ، وما لم ينص عليه جرت في الاعتبار والنظر مجراها ، وهو الذي يجمع [ ص: 540 ] أشتات ما ذكره العلماء وما لم يذكروه مما هو في معناه .
فكذلك نقول في : ما أخل منها بأصل من هذه الضروريات فهو كبيرة ، وما لا ، فهو صغيرة . وقد تقدمت لذلك أمثلة أول الباب . فكما انحصرت كبائر المعاصي أحسن انحصار ـ حسبما أشير إليه في ذلك الكتاب ـ كذلك تنحصر كبائر البدع أيضا ، وعند ذلك يعترض في المسألة إشكال عظيم على أهل البدع يعسر التخلص عنه في إثبات الصغائر فيها . وذلك أن جميع البدع راجعة إلى الإخلال بالدين إما أصلا وإما فرعا ، لأنها إنما أحدثت لتلحق بالمشروع زيادة فيه أو نقصانا منه أو تغييرا لقوافيه ، أو ما يرجع إلى ذلك وليس ذلك بمختص بالعبادات دون العادات ، وإن قلنا بدخولها في العادات ، بل تمنع في الجميع . وإذا كانت بكليتها إخلالا بالدين فهي إذا إخلال بأول الضروريات وهو الدين ، وقد أثبت الحديث الصحيح كبائر البدع ، وقال في الفرق : أن كل بدعة ضلالة وهذا وعيد أيضا للجميع على التفصيل . كلها في النار إلا واحدة
وهذا وإن تفاوتت مراتبها في الإخلال بالدين فليس ذلك بمخرج لها عن أن تكون كبائر ، كما أن القواعد الخمس أركان الدين وهي متفاوتة في الترتيب ، فليس الإخلال بالشهادتين كالإخلال بالصلاة ، ولا الإخلال بالصلاة كالإخلال بالزكاة ، ولا الإخلال بالزكاة كالإخلال برمضان ، وكذلك سائرها مع الإخلال ، فكل منها كبيرة . فقد آل النظر إلى أن كل بدعة كبيرة .
[ ص: 541 ] ويجاب عنه بأن هذا النظر يدل على ما ذكره ، ففي النظر ما يدل من جهة أخرى على إثبات الصغيرة من أوجه :
أحدها : أنا نقول : الإخلال بضرورة النفس كبيرة بلا إشكال ، ولكنها على مراتب أدناها لا يسمى كبيرة ، فالقتل كبيرة ، وقطع الأعضاء من غير إجهاز كبيرة دونها ، وقطع عضو واحد كبيرة دونها ، وهلم جرا إلى أن تنتهي إلى اللطمة ، ثم إلى أقل خدش يتصور ، فلا يصح أن يقال في مثله كبيرة ، كما قال العلماء في السرقة : إنها كبيرة لأنها إخلال بضرورة المال . فإن كانت السرقة في لقمة أو تطفيف بحبة فقد عدوه من الصغائر . وهذا في ضرورة الدين أيضا .
فقد جاء في بعض الأحاديث عن حذيفة ـ رضي الله عنه ـ قال :
أول ما تفقدون من دينكم الأمانة ، وآخر ما تفقدون الصلاة ، ولتنقضن عرى الإيمان عروة عروة ، وليصلين نساء وهن حيض ـ ثم قال ـ حتى تبقى فرقتان من فرق كثيرة تقول إحداهما : ما بال الصلوات الخمس ؟ لقد ضل من كان قبلنا ، إنما قال الله : وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل لا تصلن إلا ثلاثا . وتقول أخرى : إنا لنؤمن بالله إيمان الملائكة ، ما فينا كافر ، حق على الله أن يحشرهما مع الدجال [ ص: 542 ] فهذا الأثر ـ وإن لم تلتزم عهدة صحته ـ مثال من أمثلة المسألة .
فقد نبه على أن في آخر الزمان من يرى أن الصلوات المفروضة ثلاث لا خمس ، وبين أن من النساء من يصلين وهن حيض . كأنه يعنى بسبب التعمق وطلب الاحتياط بالوساوس الخارج عن السنة . فهذه مرتبة دون الأولى .
وحكى أن بعض الناس زعم أن الظهر خمس ركعات لا أربع ركعات ، ثم وقع في العتبية . قال ابن حزم ابن القاسم : وسمعت مالكا يقول : أول من أحدث الاعتماد في الصلاة ـ حتى لا يحرك رجليه ـ رجل قد عرف وسمي إلا أني لا أحب أن أذكره ، وقد كان مساء ( أي يساء الثناء عليه ) قال : قد عيب ذلك عليه ، وهذا مكروه من الفعل . قالوا : ومساء أي يساء الثناء عليه .
قال ابن رشد : جائز عند مالك أن يروح الرجل قدميه في الصلاة ، قاله في المدونة ، وإنما كره أن يقرنهما حتى لا يعتمد على إحداهما دون الأخرى ، لأن ذلك ليس من حدود الصلاة إذ لم يأت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من السلف والصحابة المرضيين ، وهو من محدثات الأمور انتهى .
فمثل هذا ـ إن كان يعده فاعله من محاسن الصلاة وإن لم يأت به أثر ـ فيقال في مثله : إنه من كبار البدع . كما يقال ذلك في الركعة [ ص: 543 ] الخامسة في الظهر ونحوها ، بل إنما يعد مثله من صغائر البدع إن سلمنا أن لفظ الكراهية فيه ما يراد به التنزيه ، وإذا ثبت ذلك في بعض الأمثلة في قاعدة الدين ، فمثله يتصور في سائر البدع المختلفة المراتب ، فالصغائر في البدع ثابتة كما أنها في المعاصي ثابتة .
والثاني : أن البدع تنقسم إلى ما هي كلية في الشريعة وإلى جزئية ، ومعنى ذلك أن يكون الخلل الواقع بسبب البدعة كليا في الشريعة ، كبدعة التحسين والتقبيح العقليين ، وبدعة إنكار الأخبار السنية اقتصارا على القرآن ، وبدعة الخوارج في قولهم : لا حكم إلا لله . وما أشبه ذلك من البدع التي لا تختص فرعا من فروع الشريعة دون فرع ، بل ستجدها تنتظم ما لا ينحصر من الفروع الجزئية ، أو يكون الخلل الواقع جزئيا إنما يأتي في بعض الفروع دون بعض كبدعة التثويب بالصلاة الذي قال فيه مالك : التثويب ضلال ، وبدعة الأذان والإقامة في العيدين ، وبدعة الاعتماد في الصلاة على إحدى الرجلين ، وما أشبه ذلك . فهذا القسم لا تتعدى فيه البدعة محلها ، ولا تنتظم تحتها غيرها حتى تكون أصلا لها .
فالقسم الأول إذا عد من الكبائر اتضح مغزاه وأمكن أن يكون منحصرا داخلا تحت عموم الثنتين والسبعين فرقة ، ويكون الوعيد الآتي في الكتاب والسنة مخصوصا به لا عاما فيه وفي غيره ، ويكون ما عدا ذلك من قبيل اللمم المرجو فيه العفو الذي لا ينحصر إلى ذلك العدد ، فلا قطع على أن جميعها من واحد ، وقد ظهر وجه انقسامها .
والثالث : أن المعاصي قد ثبت انقسامها إلى الصغائر والكبائر ، ولا شك أن البدع من جملة المعاصي ـ على مقتضى الأدلة المتقدمة ـ ونوع [ ص: 544 ] من أنواعها ، فاقتضى إطلاق التقسيم أن البدع تنقسم أيضا ، ولا يخصص وجوها بتعميم الدخول في الكبائر ، لأن ذلك تخصيص من غير مخصص ، ولو كان ذلك معتبرا لاستثني من تقدم من العلماء القائلين بالتقسيم ، قسم البدع ، فكانوا ينصون على أن المعاصي ما عدا البدع تنقسم إلى الصغائر والكبائر ، إلا أنهم لم يلتفتوا إلى الاستثناء وأطلقوا القول بالانقسام ، فظهر أنه شامل لجميع أنواعها .
فإن قيل : إن ذلك التفاوت لا دليل فيه على إثبات الصغيرة مطلقا ، وإنما يدل ذلك على أنها تتفاضل ، فمنها ثقيل وأثقل ومنها خفيف وأخف ، ؟ هذا فيه نظر ، وقد ظهر معنى الكبيرة والصغيرة في المعاصي غير البدع . والخفة هل تنتهي إلى حد تعد البدعة فيه من قبيل اللمم
وأما في البدع فثبت لها أمران :
أحدهما : أنها مضادة للشارع ومراغمة له ، حيث نصب المبتدع نفسه نصب المستدرك على الشريعة ، لا نصب المكتفي بما حد له .
والثاني : أن كل بدعة ـ وإن قلت ـ تشريع زائد أو ناقص ، أو تغيير للأصل الصحيح ، وكل ذلك قد يكون على الانفراد ، وقد يكون ملحقا بما هو مشروع ، فيكون قادحا في المشروع . ولو فعل أحد مثل هذا في نفس الشريعة عامدا الكفر ، إذ الزيادة والنقصان فيها أو التغيير ـ قل أو كثر ـ كفر ، فلا فرق بين ما قل منه وما كثر . فمن فعل مثل ذلك بتأويل فاسد أو [ ص: 545 ] برأي غالط رآه ، أو ألحقه بالمشروع إذا لم تكفره لم يكن في حكمه فرق بين ما قل منه وما كثر ، لأن الجميع جناية لا تحملها الشريعة بقليل ولا بكثير .
ويعضد هذا النظر عموم الأدلة في ذم البدع من غير استثناء ، فالفرق بين بدعة جزئية وبدعة كلية ، وقد حصل الجواب عن السؤال الأول والثاني .
وأما الثالث : فلا حجة فيه لأن قوله عليه السلام : وما تقدم من كلام السلف يدل على عموم الذم فيها . وظهر أنها مع المعاصي لا تنقسم ذلك الانقسام ، بل إنما ينقسم ما سواها من المعاصي . واعتبر بما تقدم ذكره في الباب الثاني يتبين لك عدم الفرق فيها . وأقرب منها عبارة تناسب هذا التقرير أن يقال : كل بدعة كبيرة عظيمة بالإضافة إلى مجاوزة حدود الله بالتشريع ، إلا أنها وإن عظمت لما ذكرناه ، فإذا نسب بعضها إلى بعض تفاوتت رتبتها فيكون منها صغار وكبار ، إما باعتبار أن بعضها أشد عقابا من بعض ، فالأشد عقابا أكبر مما دونه ، وإما باعتبار فوت المطلوب في المفسدة ، فكما انقسمت الطاعة باتباع السنة إلى الفاضل والأفضل ، لانقسام مصالحها إلى الكامل والأكمل ، انقسمت البدع لانقسام مفاسدها إلى الرذل والأرذل ، والصغر والكبر ، من باب النسب والإضافات ، فقد يكون الشيء كبيرا في نفسه لكنه صغير بالنسبة [ ص: 546 ] إلى ما هو أكبر منه . كل بدعة ضلالة
وهذه العبارة قد سبق إليها إمام الحرمين لكن في انقسام المعاصي إلى الكبائر والصغائر فقال : المرضي عندنا أن كل ذنب كبير وعظيم بالإضافة إلى مخالفة الله ، ولذلك يقال : معصية الله أكبر من معصية العباد ، قولا مطلقا ، إلا أنها وإن عظمت لما ذكرناه ، فإذا نسب بعضها إلى بعض تفاوتت رتبها . ثم ذكر معنى ما تقدم ، ولم يوافقه غيره على ما قال وإن كان له وجه في النظر وقعت الإشارة إليه في كتاب الموافقات . ولكن الظاهر يأبى ذلك ـ حسبما ذكره غيره من العلماء ـ والظواهر في البدع لا تأبى كلام الإمام إذا نزل عليها ـ حسبما تقدم ـ فصار اعتقاد الصغائر فيها يكاد يكون من المتشابهات ، كما صار اعتقاد نفي الكراهية التنزيه عنها من الواضحات .
فليتأمل هذا الموضع أشد التأمل ويعط من الإنصاف حقه ، ولا ينظر إلى خفة الأمر في البدعة بالنسبة إلى صورتها وإن دقت ، بل ينظر إلى مصادمتها للشريعة ورميها لها بالنقص والاستدراك ، وأنها لم تكمل بعد حتى يوضع فيها ، بخلاف سائر المعاصي فإنها لا تعود على الشريعة بتنقيص ولا غض من جانبها ، بل صاحب المعصية متنصل منها ، مقر لله بمخالفته لحكمها .
وحاصل المعصية أنها مخالفة في فعل المكلف لما يعتقد صحته من الشريعة . والبدعة حاصلها مخالفة في اعتقاد كمال الشريعة ، ولذلك قال [ ص: 547 ] : من أحدث في هذه الأمة شيئا لم يكن عليه سلفها فقد زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خان الرسالة ، لأن الله يقول : مالك بن أنس اليوم أكملت لكم دينكم إلى آخر الحكاية . وقد تقدمت .
ومثلها جوابه لمن أراد أن يحرم من المدينة وقال : أي فتنة فيها ؟ إنما هي أميال أزيدها . فقال : وأي فتنة أعظم من أن تظن أنك فعلت فعلا قصر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إلى آخر الحكاية ، وقد تقدمت أيضا ، فإذا يصح أن يكون في البدع ما هو صغيرة .
فالجواب : أن ذلك يصح بطريقة يظهر إن شاء الله أنها تحقيق في تشقيق هذه المسألة .
وذلك أن . وغير العالم بكونها بدعة على ضربين ، وهما المجتهد في استنباطها وتشريعها ، والمقلد له فيها . وعلى كل تقدير فالتأويل يصاحبه فيها ولا يفارقه إذا حكمنا له بحكم أهل الإسلام ، لأنه مصادم للشارع مراغم للشرع بالزيادة فيه أو النقصان منه أو التحريف له ، فلا بد له من تأويل كقوله : هي بدعة ولكنها مستحسنة أو يقول : إنها بدعة ولكني رأيت فلانا الفاضل يعمل بها أو يقر بها ولكنه يفعلها لحظ عاجل ، كفاعل الذنب لقضاء حظه العاجل خوفا على حظه ، أو فرارا من خوف على حظه ، أو فرارا من الاعتراض عليه في اتباع السنة ، [ ص: 548 ] كما هو الشأن اليوم في كثير ممن يشار إليه ، وما أشبه ذلك . صاحب البدعة يتصور أن يكون عالما بكونها بدعة وأن يكون غير عالم بذلك
وأما غير العالم وهو الواضع لها ، لأنه لا يمكن أن يعتقدها بدعة ، بل هي عنده مما يلحق المشروعات ، كقول من جعل يوم الإثنين يصام لأنه يوم مولد النبي صلى الله عليه وسلم ، وجعل الثاني عشر من ربيع الأول ملحقا بأيام الأعياد لأنه عليه السلام ولد فيه ، وكمن عد السماع والغناء مما يتقرب به إلى الله بناء على أنه يجلب الأحوال السنية ، أو رغب في الدعاء بهيئة الاجتماع في أدبار الصلوات دائما بناء على ما جاء في ذلك حالة الواحدة ، أو زاد في الشريعة أحاديث مكذوبة لينصر في زعمه سنة محمد صلى الله عليه وسلم . فلما قيل له : إنك تكذب عليه وقد قال :
قال : لم أكذب عليه وإنما كذبت له . أو نقص منها تأويلا عليها لقوله تعالى في ذم الكفار : من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا فأسقط اعتبار الأحاديث المنقولة بالآحاد لذلك ولما أشبه ، لأن خبر الواحد ظني ، فهذه كلها من قبل التأويل .
وأما فكذلك أيضا لأنه يقول : فلان المقتدى به يعمل بهذا العمل ويثني عليه ، كاتخاذ الغناء جزءا من أجزاء طريقة التصوف بناء على أن شيوخ التصوف قد سمعوه وتواجدوا عليه ، ومنهم من مات بسببه ، وكتمزيق الثياب عند التواجد بالرقص وسواه لأنهم قد فعلوه ، وأكثر ما يقع مثل هذا في هؤلاء المنتمين إلى التصوف . المقلد
وربما احتجوا على بدعتهم بالجنيد و البسطامي والشبلي وغيرهم فيما صح عندهم أو لم يصح ، ويتركون أن يحتجوا بسنة الله ورسوله وهي التي [ ص: 549 ] لا شائبة فيها إذا نقلها العدول وفسرها أهلها المكبون على فهمها وتعلمها . ولكنهم مع ذلك لا يقرون بالخلاف للسنة بحثا ، بل يدخلون تحت أذيال التأويل ، إذ لا يرضى منتم إلى الإسلام بإبداء صفحة الخلاف للسنة أصلا .
وإذا كان كذلك فقول مالك : من أحدث في هذه الأمة شيئا لم يكن عليه سلفها فقد زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم خان الرسالة . وقوله لمن أراد أن يحرم من المدينة : أي فتنة أعظم من أن تظن أنك سبقت إلى فضيلة قصر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ إلى آخر الحكاية ، إنها إلزام للخصم على عادة أهل النظر ، كأنه يقول : يلزمك في هذا القول كذا . لأنه يقول : قصدت إليه قصدا ، لأنه لا يقصد إلى ذلك مسلم ، ولازم المذهب : هل هو مذهب أم لا ؟ هي مسألة مختلف فيها بين أهل الأصول ، والذي كان يقول به شيوخنا البجائيون والمغربيون ويرون أنه رأي المحققين أيضا : أن لازم المذهب ليس بمذهب ، فلذلك إذا قرر على الخصم أنكره غاية الإنكار ، فإذا اعتبار ذلك المعنى على التحقيق لا ينهض ، وعند ذلك تستوي البدعة مع المعصية صغائر وكبائر ، فكذلك البدع .
ثم إن البدع على ضربين : كلية وجزئية ، فأما الكلية فهي السارية فيما لا ينحصر من فروع الشريعة ، ومثالها بدع الفرق الثلاث والسبعين ، فإنها مختصة بالكليات منها دون الجزئيات ، [ ص: 550 ] حسبما يتبين بعد إن شاء الله .
وأما الجزئية فهي الواقعة في الفروع الجزئية ، ولا يتحقق دخول هذا الضرب من البدع تحت الوعيد بالنار ، وإن دخلت تحت الوصف بالضلال ، كما لا يتحقق ذلك في سرقة لقمة أو التطفيف بحبة ، وإن كان داخلا تحت وصف السرقة ، بل المتحقق دخول عظائمها وكلياتها كالنصاب في السرقة فلا تكون تلك الأدلة واضحة الشمول لها ، ألا ترى أن خواص البدع غير ظاهرة في أهل البدع الجزئية غالبا كالفرقة ، والخروج عن الجماعة وإنما تقع الجزئيات في الغالب كالزلة ، والفلتة ولذلك لا يكون اتباع الهوى فيها مع حصول التأويل في فرد من أفراد الفروع ، ولا المفسدة الحاصلة بالجزئية كالمفسدة الحاصلة بالكلية . فعلى هذا ; إذا اجتمع في البدعة وصفان ، كونها جزئية ، وكونها بالتأويل صح أن تكون صغيرة ـ والله أعلم ـ ومثاله ، مسألة من نذر أن يصوم قائما لا يجلس ، وضاحيا يستظل ، ومن حرم على نفسه شيئا مما أحل الله من النوم أو لذيذ الطعام أو النساء أو الأكل بالنهار . . . وما أشبه ذلك مما تقدم ذكره ويأتي . غير أن الكلية والجزئية قد تكون ظاهرة ، وقد تكون خفية كما أن التأويل قد يقرب مأخذه ، وقد يبعد فيقع الإشكال في كثير من أمثلة هذا الفصل فيعد كبيرة ما هو من الصغائر ، وبالعكس فيوكل النظر فيه إلى الاجتهاد