وأما أن صاحبها : ليس له من توبة
فلما جاء من قوله عليه الصلاة والسلام : . إن الله حجر التوبة على كل صاحب بدعة
وعن يحيى بن أبي عمرو الشيباني ، قال : " كان يقال : يأبى الله لصاحب بدعة بتوبة ، وما انتقل صاحب بدعة; إلا إلى أشر منها " .
ونحوه عن طريق رضي الله عنه; قال : " ما كان رجل [ ص: 163 ] على رأي من البدعة فتركه ، إلا إلى ما هو شر منه " . علي بن أبي طالب
خرج هذه الآثار . ابن وضاح
وخرج ابن وهب عن : أنه كان يقول : " اثنان لا نعاتبهما : صاحب طمع ، وصاحب هوى ، فإنهما لا ينزعان " . عمر بن عبد العزيز
وعن ابن شوذب; قال : " سمعت عبد الله بن القاسم وهو يقول : ما كان عبد على هوى تركه; إلا إلى ما هو شر منه " .
قال : " فذكرت ذلك لبعض أصحابنا ، فقال : تصديقه في حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم : . يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية ، ثم لا يرجعون إليه حتى يرجع السهم على فوقه
وعن أيوب; قال : " كان رجل يرى رأيا ، فرجع عنه ، فأتيت محمدا فرحا بذلك أخبره ، فقلت : أشعرت أن فلانا ترك رأيه الذي كان يرى ؟ فقال : انظر إلام يتحول ؟ إن آخر الحديث أشد عليهم من أوله : يمرقون من الدين . . . . . . ثم لا يعودون .
وهو حديث أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : . سيكون من أمتي قوم يقرءون القرآن ولا يجاوز حلاقيمهم ، يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية ، ثم لا يعودون فيه ، هم شر الخلق والخليقة
فهذه شهادة الحديث الصحيح لمعنى هذه الآثار ، وحاصلها : أن ، فإن خرج عنها; فإنما يخرج إلى ما هو شر منها; كما في حديث [ لا ] توبة لصاحب البدعة عن بدعته أيوب ، أو يكون ممن يظهر الخروج عنها وهو مصر [ ص: 164 ] عليها بعد; كقصة غيلان مع . عمر بن عبد العزيز
ويدل على ذلك أيضا حديث الفرق إذ قال فيه : . وإنه سيخرج في أمتي أقوام تجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه ، لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله
وهذا النفي يقتضي العموم بإطلاق ، ولكنه قد يحمل على العموم العادي ، إذ لا يبعد أن يتوب عما رأى ويرجع إلى الحق ، كما نقل عن عبد الله بن الحسن العنبري ، وما نقلوه في مناظرة ابن عباس الحرورية الخارجين على علي رضي الله عنه ، وفي مناظرة لبعضهم . عمر بن عبد العزيز
ولكن الغالب في الواقع الإصرار ، ومن هنالك قلنا : يبعد أن يتوب بعضهم; لأن الحديث يقتضي العموم بظاهره ، وسيأتي بيان ذلك بأبسط من هذا إن شاء الله .
وسبب بعده عن التوبة : أن الدخول تحت تكاليف الشريعة صعب على النفس; لأنه أمر مخالف للهوى ، وصاد عن سبيل الشهوات ، فيثقل عليها جدا; لأن الحق ثقيل ، والنفس إنما تنشط بما يوافق هواها لا بما يخالفه ، وكل بدعة فللهوى فيها مدخل ، لأنها راجعة إلى نظر مخترعها لا إلى نظر الشارع ، [ فإن تعلقت بحكم الشارع ] فعلى حكم التبع لا بحكم الأصل ، مع ضميمة أخرى ، وهي أن المبتدع لا بد له من تعلق بشبهة دليل [ ص: 165 ] ينسبها إلى الشارع ، ويدعي أن ما ذكره هو مقصود الشارع ، فصار هواه مقصودا بدليل شرعي في زعمه ، فكيف يمكنه الخروج عن ذلك وداعي الهوى مستمسك بحسن ما يتمسك به وهو الدليل الشرعي في الجملة ؟ ! .
ومن الدليل على ذلك ما روي عن قال : " بلغني أن من ابتدع بدعة ضلالة آلفه الشيطان العبادة ، أو ألقى عليه الخشوع والبكاء; كي يصطاد به " . الأوزاعي;
وقال بعض الصحابة : " أشد الناس عبادة مفتون " ، واحتج بقوله عليه الصلاة والسلام : إلى آخر الحديث . يحقر أحدكم صلاته في صلاته وصيامه في صيامه
ويحقق ما قاله الواقع; كما نقل في الأخبار عن الخوارج وغيرهم .
فالمبتدع يزيد في الاجتهاد; لينال في الدنيا التعظيم والمال والجاه وغير ذلك من أصناف الشهوات ، بل التعظيم على شهوات الدنيا ، ألا ترى إلى انقطاع الرهبان في الصوامع والديارات عن جميع الملذوذات ، ومقاساتهم في أصناف العبادات والكف عن الشهوات ، وهم مع ذلك خالدون في جهنم ؟ ! .
قال الله : ( وجوه يومئذ خاشعة عاملة ناصبة تصلى نارا حامية ) .
[ ص: 166 ] وقال : ( قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ) .
وما ذاك إلا لخفة يجدونها في ذلك الالتزام ، ونشاط بداخلهم; يستسهلون به الصعب ، بسبب ما داخل النفس من الهوى ، فإذا بدا للمبتدع ما هو عليه ، رآه محبوبا عنده; لاستبعاده للشهوات وعمله من جملتها ، ورآه موافقا للدليل عنده ، فما الذي يصده عن الاستمساك به والازدياد منه ؟ وهو يرى أن أعماله أفضل من أعمال غيره ، واعتقاداته أوفق وأعلى ؟ ! أفيفيد البرهان مطلبا ؟ ( كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء ) .