المسألة السادسة عشرة
أن رواية من روى في تفسير الفرق الناجية وهي الجماعة محتاجة إلى التفسير لأنه إن كان معناه بينا من جهة تفسير الرواية الأخرى - [ ص: 768 ] وهي قوله : ما أنا عليه وأصحابي - فمعنى لفظ : الجماعة من حيث المراد به في إطلاق الشرع محتاج إلى التفسير .
فقد جاء في أحاديث كثيرة منها الحديث الذي نحن في تفسيره ، ومنها ما صح عن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ابن عباس
. من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر عليه ، فإنه من فارق الجماعة شيئا فمات مات ميتة جاهلية
وصح من حديث حذيفة ، قال : قلت يا رسول الله ! إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير ، فهل بعد هذا الخير من شر ؟ قال : نعم ، قلت : وهل بعد ذلك الشر من خير ؟ قال : نعم ، وفيه دخن ، قلت : وما دخنه ؟ قال : قوم يستنون بغير سنتي ويهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر ، قلت : فهل بعد ذلك الخير من شر ؟ قال : نعم : دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها ، قلت : يا رسول الله ! صفهم لنا . قال : هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا ، قلت : فما تأمرني إن أدركني ذلك ؟ قال : تلزم جماعة المسلمين وإمامهم ، قلت : فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام ؟ قال : فاعتزل تلك الفرق كلها ، ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك .
وخرج الترمذي و الطبري قال : خطبنا ابن عمر - رضي الله عنه - [ ص: 769 ] عمر بن الخطاب بالجابية فقال : إني قمت فيكم كمقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فينا . فقال : أوصيكم بأصحابي ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم ، ثم يفشو الكذب حتى يحلف الرجل ولا يستحلف ، ويشهد ولا يستشهد ، عليكم بالجماعة ، وإياكم والفرقة ، لا يخلون رجل بامرأة ، فإنه لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان ، الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد ، ، ومن سرته حسنته وساءته سيئته فذلك هو المؤمن ومن أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة . عن
وفي الترمذي عن - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ابن عباس ، [ ص: 770 ] وخرج إن الله لا يجمع أمتي على ضلالة ، ويد الله مع الجماعة ، ومن شذ شذ إلى النار أبو داود عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : . من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه
وعن عرفجة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : . سيكون في أمتي هنات وهنات ، فمن أراد أن يفرق أمر المسلمين وهم جميع فاضربوه بالسيف كائنا من كان
فاختلف الناس في المرادة في هذه الأحاديث على خمسة أقوال : اختلف الناس في معنى الجماعة المرادة في هذه الأحاديث على خمسة أقوال أحدها : أنها السواد الأعظم معنى الجماعة
أحدها : أنها السواد الأعظم من أهل الإسلام وهو الذي يدل عليه كلام أبي غالب : إن السواد الأعظم هم الناجون من الفرق ، فما كانوا عليه من أمر دينهم فهو الحق ، ومن خالفهم مات ميتة جاهلية ، سواء خالفهم في شيء من الشريعة أو في إمامهم وسلطانهم ، فهو مخالف للحق .
وممن قال بهذا أبو مسعود الأنصاري ، فروى أنه لما قتل وابن مسعود عثمان سئل عن الفتنة ، فقال : عليك بالجماعة فإن الله لم يكن ليجمع أمة أبو مسعود الأنصاري محمد صلى الله عليه وسلم على ضلالة ، واصبر حتى تستريح أو يستراح من فاجر . وقال : إياك والفرقة فإن الفرقة هي الضلالة . وقال بالسمع والطاعة فإنها حبل الله الذي أمر [ ص: 771 ] به . ثم قبض يده وقال : إن الذي تكرهون في الجماعة خير من الذين تحبون في الفرقة . ابن مسعود
وعن الحسين قيل له : أبو بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : أي والذي لا إله إلا هو ، ما كان الله ليجمع أمة محمد على ضلالة .
فعلى هذا القول يدخل في الجماعة مجتهدو الأمة وعلماؤها وأهل الشريعة العاملون بها ، ومن سواهم داخلون في حكمهم ، لأنهم تابعون لهم ومقتدون بهم ، فكل من خرج عن جماعتهم فهم الذين شذوا وهم نهبة الشيطان ويدخل في هؤلاء جميع أهل البدع لأنهم مخالفون لمن تقدم من الأمة ، لم يدخلوا في سوادهم بحال . الثاني أنها جماعة أئمة العلماء المجتهدين
والثاني : أنها جماعة أئمة العلماء المجتهدين ، فمن خرج مما عليه علماء الأمة مات ميتة جاهلية ، لأن جماعة الله العلماء ، جعلهم الله حجة على العالمين ، وهم المعنيون بقوله عليه الصلاة والسلام : إن الله لن يجمع أمتي على ضلالة وذلك أن العامة عنها تأخذ دينها ، وإليها تفزع من النوازل ، وهي تبع لها . فمعنى قوله : لن تجتمع أمتي لن يجتمع علماء أمتي على ضلالة .
وممن قال بهذا ، و عبد الله بن المبارك ، وجماعة من السلف وهو رأي إسحاق بن راهويه الأصوليين ، فقيل ل : من الجماعة الذين ينبغي أن يقتدى بهم ؟ قال : عبد الله بن المبارك أبو بكر وعمر - فلم يزل يحسب حتى انتهى إلى محمد بن ثابت - فقيل : هؤلاء ماتوا : فمن الأحياء ؟ قال والحسين بن واقد . أبو حمزة السكري
[ ص: 772 ] وعن قال : كانوا إذا جاءهم شيء من القضاء ليس في كتاب الله ولا سنة رسول الله سموه " صوافي الأمراء " فجمعوا له أهل العلم ، فما أجمع رأيهم عليه فهو الحق ، وعن المسيب بن رافع نحو مما قال إسحاق بن راهويه . ابن المبارك
فعلى هذا القول لا مدخل في السؤال لمن ليس بعالم مجتهد ، لأنه داخل في أهل التقليد ، فمن عمل منهم بما يخالفهم فهو صاحب الميتة الجاهلية ، ولا يدخل أيضا أحد من المبتدعين ، لأن العالم أولا لا يبتدع ، وإنما يبتدع من ادعى لنفسه العلم وليس كذلك ، ولأن البدعة قد أخرجته عن نمط من يعتد بأقواله ، وهذا بناء على القول بأن المبتدع لا يعتد به في الإجماع ، وإن قيل بالاعتداد به فيه ففي غير مسألة التي ابتدع فيها ، لأنهم في نفس البدعة مخالفون للإجماع : والثالث : أن الجماعة هي الصحابة على الخصوص ، فإنهم الذين أقاموا عماد الدين وأرسوا أوتاده ، وهم الذين لا يجتمعون على ضلالة أصلا ، وقد يمكن فيمن سواهم ذلك ، ألا ترى قوله عليه الصلاة والسلام : وقوله : ولا تقوم الساعة على أحد يقول : الله الله ، فقد أخبر عليه [ ص: 773 ] السلام أن من الأزمان أزمانا يجتمعون فيها على ضلالة وكفر . قالوا ، وممن قال بهذا القول لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس ، فروى عمر بن عبد العزيز ابن وهب عن مالك قال : كان يقول : سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر من بعده سننا ، الأخذ بها تصديق لكتاب الله ، واستكمال لطاعة الله ، وقوة على دين الله ، ليس لأحد تبديلها ولا تغييرها ، ولا النظر فيها ! من اهتدى بها مهتد ، ومن استنصر بها منصور ، ومن خافها اتبع غير سبيل المؤمنين ، وولاه الله ما تولى ، وأصلاه جهنم وساءت مصيرا . فقال عمر بن عبد العزيز مالك : فأعجبني عزم عمر على ذلك .
فعلى هذا القول فلفظ الجماعة مطابق للرواية الأخرى في قوله عليه الصلاة والسلام : ما أنا عليه وأصحابي فكأنه راجع إلى ما قالوه وما سنوه ، وما اجتهدوا فيه حجة على الإطلاق ، وبشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم بذلك خصوصا في قوله : وأشباهه ، أو لأنهم المتقلدون لكلام النبوة ، المهتدون للشريعة ، الذين فهموا أمر دين الله بالتلقي من نبيه مشافهة ، على علم وبصيرة بمواطن التشريع وقرائن الأحوال ، بخلاف غيرهم : فإذا كل ما سنوه فهو سنة من غير نظير فيه ، بخلاف غيرهم ، فإن فيه لأهل الاجتهاد مجالا للنظر ردا وقبولا ، فأهل البدع إذا غير داخلين في الجماعة قطعا على هذا القول . فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين
والرابع : أن الجماعة هي جماعة أهل الإسلام ، إذا أجمعوا على أمر فواجب على غيرهم من أهل الملل اتباعهم ، وهم الذين ضمن الله لنبيه عليه الصلاة والسلام أن لا يجمعهم على ضلالة ، فإن وقع بينهم اختلاف [ ص: 774 ] فواجب تعرف الصواب فيما اختلفوا فيه .
قال : الجماعة لا تكون فيها غفلة عن معنى كتاب الله ، ولا سنة ولا قياس ، وإنما تكون الغفلة في الفرقة . الشافعي
وكأن هذا القول يرجع إلى الثاني وهو يقتضي أيضا ما يقتضيه ، أو يرجع إلى القول الأول وهو الأظهر ، وفيه من المعنى ما في الأول من أنه لابد من كون المجتهدين فيهم ، وعند ذلك لا يكون مع اجتماعهم على هذا القول بدعة أصلا ، فهم - إذا - الفرقة الناجية .
والخامس : ما اختاره الإمام من أن الطبري ، فأمر عليه الصلاة والسلام بلزومه ونهى عن فراق الأمة فيما اجتمعوا عليه من تقديمه عليهم ، لأن فراقهم لا يعدو إحدى حالتين ، إما للنكير عليهم في طاعة أميرهم والطعن عليه في سيرته المرضية لغير موجب ، بل بالتأويل في إحداث بدعة في الدين ، الجماعة جماعة المسلمين إذا اجتمعوا على أمير كالحرورية التي أمرت الأمة بقتالها وسماها النبي صلى الله عليه وسلم مارقة من الدين ، وإما لطلب إمارة من انعقاد البيعة لأمير الجماعة ، فإنه نكث عهد ونقض عهد بعد وجوبه .
وقد قال صلى الله عليه وسلم : . قال من جاء إلى أمتي ليفرق جماعتهم فاضربوا عنقه كائنا من كان : فهذا معنى الأمر بلزوم الجماعة . الطبري
قال : وأما كان المفارق لها ميتا ميتة جاهلية ، فهي الجماعة التي وصفها الجماعة التي إذا اجتمعت على الرضى بتقديم أمير أبو مسعود [ ص: 775 ] الأنصاري ، وهم معظم الناس وكافتهم من أهل العلم والدين وغيرهم ، وهم السواد الأعظم .
قال : وقد بين ذلك - رضي الله عنه - ، فروي عن عمر بن الخطاب قال : قال عمر بن ميمون الأودي عمر حين طعن لصهيب : صل بالناس ثلاثا وليدخل علي عثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن ، وليدخل في جانب البيت وليس له من الأمر شيء ، فقم يا ابن عمر صهيب على رؤوسهم بالسيف فإن بايع خمسة ونكص واحد فاجلد رأسه بالسيف ، وإن بايع أربعة ونكص رجلان فاجلد رأسيهما حتى يستوثقوا على رجل .
قال : فالجماعة التي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلزومها وسمى المنفرد عنها مفارقا لها نظير الجماعة التي أوجب عمر الخلافة لمن اجتمعت عليه ، وأمر صهيبا بضرب رأس المنفرد عنهم بالسيف . فهم في معنى كثرة العدد المجتمع على بيعته وقلة العدد المنفرد عنهم .
قال : وأما الخبر الذي ذكر فيه أن لا تجتمع الأمة على ضلالة فمعناه أن لا يجمعهم على إضلال الحق فيما نابهم من أمر دينهم حتى يضل جميعهم عن العلم ويخطئوه ، وذلك لا يكون في الأمة .
هذا تمام كلامه وهو منقول بالمعنى وتحر في أكثر اللفظ .
وحاصله : أن الجماعة راجعة إلى الاجتماع على الإمام الموافق للكتاب والسنة وذلك ظاهر في أن الاجتماع على غير سنة خارج عن معنى الجماعة المذكور في الأحاديث المذكورة ، كالخوارج ومن جرى [ ص: 776 ] مجراهم .