المسألة السادسة
إنا ؟ وظاهر الحديث يقتضي أن ذلك الافتراق إنما هو مع كونهم من الأمة ، وإلا فلو خرجوا من الأمة إلى الكفر لم يعدوا منها ألبتة - كما تبين : - إذا قلنا بأن هذه الفرق كفار - على قول من قال به - أو ينقسمون إلى كافر وغيره فكيف يعدون من الأمة
وكذلك الظاهر في فرق اليهود والنصارى ، أن التفرق فيهم حاصل مع كونهم هودا ونصارى ؟
فيقال في الجواب عن هذا السؤال : إنه يحتمل أمرين :
أحدهما : أنا نأخذ الحديث على ظاهره في كون هذه الفرق من الأمة ، ومن أهل القبلة ، ومن قيل بكفره منهم ، فإما أن يسلم فيهم هذا القول فلا يجعلهم من الأمة أصلا ولا [ ص: 715 ] أنهم مما يعدون في الفرق ، وإنما نعد منهم من لا تخرجه بدعته إلى كفر ، فإن قال بتكفيرهم جميعا ، فلا يسلم أنهم المرادون بالحديث على ذلك التقدير ، وليس في حديث الخوارج نص على أنهم من الفرق الداخلة في الحديث ، بل نقول : المراد بالحديث فرق لا تخرجهم بدعهم عن الإسلام ، فليبحث عنهم .
وإما أن لا نتبع المكفر في إطلاق القول بالتكفير ، ونفصل الأمر إلى نحو مما فصله صاحب القول الثالث ، ويخرج من العدد من حكمنا بكفره ، ولا يدخل تحت عمومه إلا ما سواه مع غيره ممن لم يذكر في تلك العدة .
والاحتمال الثاني : أن نعدهم من الأمة على طريقة لعلها تتمشى في المواضع ، وذلك أن كل فرقة تدعي الشريعة ، وأنها على صوابها ، وأنها المتبعة للمتبعة لها ، وتتمسك بأدلتها ، وتعمل على ما ظهر لها من طريقها ! وهي تناصب العداوة من نسبتها إلى الخروج عنها ، وترمى بالجهل وعدم العلم من ناقضها . لأنها تدعي أن ما ذهبت إليه هو الصراط المستقيم دون غيره . وبذلك يخالفون من خرج عن الإسلام ، لأن المرتد إذا نسبته إلى الارتداد أقر به ورضيه ولم يسخطه ، ولم يعادل لتلك النسبة ، كسائر اليهود والنصارى ، وأرباب النحل المخالفة للإسلام .
بخلاف هؤلاء الفرق فإنهم مدعون الموالفة للشارع والرسوخ في اتباع شريعة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإنما وقعت العداوة بينهم وبين أهل السنة بسبب ادعاء بعضهم على بعض الخروج عن السنة ، ولذلك تجدهم مبالغين في العمل والعبادة ، حتى بعض أشد الناس عبادة مفتون .
[ ص: 716 ] والشاهد لهذا كله - مع اعتبار الواقع - حديث الخوارج ، فإنه قال عليه الصلاة والسلام : ، وفي رواية : تحقرون صلاتكم مع صلاتهم ، وصيامكم مع صيامهم ، وأعمالكم مع أعمالهم
وهذه شدة المثابرة على العمل به ، ومن ذلك قولهم كيف يحكم الرجال والله يقول : يخرج من أمتي قوم يقرؤون القرآن ، ليست قراءتكم من قراءتهم بشيء ولا صلاتكم من صلاتهم بشيء إن الحكم إلا لله ؟ ففي ظنهم أن الرجال لا يحكمون بهذا الدليل ، ثم قال عليه الصلاة والسلام : . يقرؤون القرآن، يحسبون أنه لهم وهو عليهم، لا تجاوز صلاتهم تراقيهم
فقوله عليه الصلاة والسلام : يحسبون أنه لهم واضح فيما قلنا ، ثم إنهم يطلبون اتباعه بتلك الأعمال ليكونوا من أهله ، وليكون حجة لهم ، فحين ابتغوا تأويله وخرجوا عن الجادة كان عليهم لا لهم .
وفي معنى ذلك من قول قال : وستجدون أقواما يزعمون أنهم يدعون إلى كتاب الله وقد نبذوه وراء ظهورهم ، عليكم بالعلم وإياكم والبدع والتعمق ، عليكم بالعتيق فقوله : يزعمون كذا . دليل على أنهم على الشرع فيما يزعمون . ابن مسعود
ومن الشواهد أيضا حديث - رضي الله عنه - : أبي هريرة . أن رسول [ ص: 717 ] الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى المقبرة فقال : السلام عليكم دار قوم مؤمنين ! وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ، وددت أني قد رأيت إخواننا - قالوا : يا رسول الله ألسنا إخوانك ؟ - قال : بل أنتم أصحابي، وإخواننا الذين لم يأتوا بعد ، وأنا فرطكم على الحوض قالوا : يا رسول الله كيف تعرف من يأتي بعدك من أمتك ؟ قال : أرأيت لو كان لأحدكم خيل غر محجلة في خيل دهم بهم ، ألا يعرف خيله ؟ قالوا : بلى يا رسول الله . قال : فإنهم يأتون يوم القيامة غرا محجلين من الوضوء ، وأنا فرطهم على الحوض ، فليذادن رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال ، أناديهم : ألا هلم ! ألا هلم ! فيقال ، قد بدلوا بعدك . فأقول : فسحقا فسحقا فسحقا
فوجه الدليل من الحديث أن قوله : إلى قوله : فليذادن رجال عن حوضي مشعر بأنهم من أمته . وأنه عرفهم ، وقد بين أنهم يعرفون بالغرر والتحجيل ، فدل على أن هؤلاء الذين دعاهم وقد كانوا بدلوا ذوو غرر وتحجيل ، وذلك من خاصية هذه الأمة . فبان أنهم معدودون من الأمة، ولو حكم لهم بالخروج من الأمة لم يعرفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بغرة أو تحجيل لعدمه عندهم . أناديهم ألا هلم
ولا علينا أقلنا : إنهم خرجوا ببدعتهم عن الأمة أو لا ، إذ أثبتنا لهم وصف الانحياش إليها .
وفي الحديث الآخر :
وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم إلى قوله : [ ص: 718 ] العزيز الحكيم - قال - فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ، إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم . فيؤخذ بقوم منكم ذات الشمال ، فأقول : يا رب أصحابي ! قال : فيقال : لا تدري ما أحدثوا بعدك . فأقول كما قال العبد الصالح :
فإن كان المراد بالصحابة الأمة ، فالحديث موافق لما قبله :
فلابد من تأويله على أن الأصحاب يعني بهم من آمن بي في حياته وإن لم يره ، ويصدق لفظ المرتدين على أعقابهم بعد موته ، أو مانعي الزكاة تأويلا على أن أخذها إنما كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم وحده ، فإن عامة أصحابه الذين رأوه وأخذوا عنه براءة من ذلك . بل أنتم أصحابي وإخواننا الذين لم يأتوا بعد