قال شيخ الإسلام ابن تيمية - روح الله روحه - وهذا المقام مقام وأي مقام زلت فيه أقدام وضلت فيه أفهام وبدل فيه دين الإسلام ، والتبس فيه أهل التوحيد بعبادة الأصنام على من يدعي نهاية التوحيد والتحقيق والمعرفة والكلام . ومعلوم عند كل من يؤمن بالله ورسوله أن المعتزلة والشيعة والقدرية المثبتين للأمر والنهي ، والوعد والوعيد - خير ممن يسوي بين المؤمن والكافر ، والبر والفاجر ، والنبي الصادق والمتنبي الكاذب ، وأولياء الله وأعدائه ، بل هم [ ص: 308 ] أحق من المعتزلة بالذم كما قال الإمام في كتاب السنة عن أبو محمد الخلال المروذي ، قال : قلت لأبي عبد الله ، يعني - رضي الله عنه - : رجل يقول عن الله أجبر العباد على المعاصي ، فقال : هكذا لا نقول ، وأنكر ذلك ، وقال : الإمام أحمد يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء . وأنكر أيضا على من قال جبر ، وقال : إن الله جبل العباد . وقال سفيان الثوري المروذي : أراد قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لأشج عبد القيس ، يعني قوله : " " ، وذكر عن إن فيك لخلقين يحبهما الله - تعالى - الحلم ، والأناة " فقال : أخلقين تخلقت بهما أم خلقين جبلت عليهما ؟ فقال : بل خلقين جبلت عليهما ، فقال : الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما قال : قال لي أبي إسحاق الفزاري : أتاني رجلان فسألاني عن القدر ، فأحببت أن آتيك بهما تسمع كلامهما وتجيبهما ، قلت : رحمك الله أنت أولى بالجواب ، قال : فأتاني الأوزاعي ومعه الرجلان فقال : تكلما ، فقالا : قدم علينا أناس من أهل القدر فنازعونا في القدر ونازعناهم حتى بلغ بنا وبهم الجواب إلى أن قلنا : إن الله - تعالى - جبرنا على ما نهانا عنه ، وحال بيننا وبين ما أمرنا به ، ورزقنا ما حرم علينا . فقلت : يا هؤلاء إن الذين أتوكم بما أتوكم به قد ابتدعوا بدعة ، وأحدثوا حدثا ، وإني أراكم قد خرجتم من البدعة إلى مثل ما خرجوا إليه . فقال - يعني الأوزاعي - : أصبت وأحسنت يا الأوزاعي أبا إسحاق .
وذكر الخلال عن قال : سألت بقية بن الوليد الزبيدي عن الجبر فقال والأوزاعي الزبيدي : أمر الله أعظم وقدرته أعظم من أن يجبر أو يعضل ، ولكن يقدر ويقضي ويقدر ويخلق ويجبل عبده على ما أحب . وقال : ما أعرف للجبر أصلا من القرآن والسنة ، فأهاب أن أقول ذلك ، ولكن القضاء والقدر ، والخلق والجبل فهذا يعرف في القرآن والحديث . قال شيخ الإسلام : أدخل الأوزاعي الخلال وغيره من علماء الإسلام القائلين بالجبر في مسمي القدرية ، وإن كانوا لا يحتجون بالقدر على المعاصي فكيف بمن يحتج به على المعاصي . ويدخل في ذم أهل العلم من يحتج بالقدر على إسقاط الأمر والنهي أعظم مما يدخل فيه المنكر له ، فإن ضلال هذا أعظم . قال شيخ الإسلام : ولهذا قرنت القدرية بالمرجئة في كلام غير واحد من السلف ، وروي في ذلك حديث مرفوع . قلت : وهو ما روي من حديث أبي سعيد [ ص: 309 ] الخدري - رضي الله عنه - مرفوعا " إن الله لعن أربعة على لسان سبعين نبيا - قلنا : من هم يا رسول الله ؟ قال : " القدرية والجهمية والمرجئة والروافض " الحديث . وفيه : قلنا : يا رسول الله ما المرجئة ، قال : الذين يقولون الإيمان قول بلا عمل . ذكره في الموضوعات . ومن حديث ابن الجوزي أنس - رضي الله عنه - مرفوعا : " المرجئة والقدرية والروافض والخوارج يسلب منهم ربع التوحيد فسيلقون الله كفارا خالدين مخلدين في النار " أخرجه ، وقال : فيه ابن حبان محمد بن يحيى بن رزين دجال يضع الحديث - وذكره في الموضوعات ; لأن كلا من هاتين البدعتين تفسد الأمر والنهي ، والوعد والوعيد ، فالإرجاء يضعف الإيمان بالوعيد ، ويهون من أمر الفرائض والمحارم ، والقدري - يعني الجبري - إن احتج بالقدر كان عونا للمرجئ ، وإن كذب به - أي بالقدر ؛ كان هو والمرجئ متقابلين ، هذا يبالغ في التشديد حتى يجعل العبد لا يستعين بالله على فعل ما أمره به وترك ما نهى عنه ، وهؤلاء ابن الجوزي القدرية حقيقة ، وهذا - يعني المرجئ - يبالغ في الناحية الأخرى ، ومن المعلوم أن الله - تعالى - أرسل الرسل وأنزل الكتب لتصدق الرسل فيما أخبرت به ، وتطاع فيما أمرت كما قال - تعالى - : وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله وقال : من يطع الرسول فقد أطاع الله ، والإيمان بالقدر من تمام ذلك ، فمن أثبت القدر وجعل ذلك معارضا للأمر فقد أذهب الأصل . قال شيخ الإسلام : ومعلوم أنه من أسقط الأمر والنهي الذي بعث الله به رسله ، فهو كافر باتفاق المسلمين واليهود والنصارى ، بل هؤلاء قولهم متناقض ، لا يمكن أحدا منهم أن يعيش به ، ولا تقوم به مصلحة أحد من الخلق ، ولا يتعاشر عليه اثنان ، فإن القدر إن كان حجة فهو حجة لكل أحد ، وإلا فليس هو حجة لأحد ، فإذا ظلم الإنسان ظالم ، أو شتمه شاتم ، أو أخذ ماله ، وأفسد عياله فمتى لامه أو ذمه أو طلب عقوبته أبطل الاحتجاج بالقدر ، قال : ومن ادعى أن العارف إذا شهد الإرادة سقط عنه الأمر ؛ كان هذا من الكفر الذي لا يرضاه أحد ، بل ذلك ممتنع في العقل محال في الشرع . وقال تلميذه المحقق ابن القيم في كتابه " شرح منازل السائرين " : مشهد أصحاب الجبر : وهم الذين يشهدون أنهم مجبرون على أفعالهم ، وأنها واقعة بغير قدرتهم [ ص: 310 ] واختيارهم ، بل لا يشهدون أنها أفعالهم البتة ، ويقولون : إن أحدهم غير فاعل في الحقيقة ولا قادر ، وأن الفاعل فيه غيره ، والمحرك له سواه ، وأنه آلة محضة ، وحركاته بمنزلة هبوب الرياح وحركات الأشجار ، وهؤلاء إذا أنكرت عليهم أفعالهم احتجوا بالقدر وحملوا ذنوبهم عليه ، وقد يغلون في ذلك حتى يروا أفعالهم كلها طاعات خيرها وشرها لموافقتها المشيئة والقدر ، ويقولون : كما أن مواجهة الأمر طاعة ، فموافقة المشيئة طاعة ، كما حكى الله - تعالى - عن المشركين إخوانهم أنهم جعلوا مشيئة الله لأفعالهم دليلا على أمره بها ورضاه بها ، قال : وهؤلاء شر من القدرية النفاة ، وأشد عداوة لله ومناقضة لكتبه ورسله ودينه ، حتى إن من هؤلاء من يعتذر عن إبليس - لعنه الله - ويتوجع له ، ويقيم عذره بجهده ، وينسب ربه إلى ظلمه بلسان الحال والقال ، ويقول : ما ذنبه وقد صان وجهه من السجود لغير خالقه ، وقد وافق حكمه ومشيئته فيه وإرادته منه ، ثم كيف يمكنه السجود ، وهو الذي منعه منه وحال بينه وبينه ، وهل كان في ترك سجوده لغيرك إلا محسنا ؟ ولكن :
إذا كان المحب قليل حظ فما حسناته إلا ذنوب
قال ابن القيم - رحمه الله - : وهؤلاء أعداء الله حقا ، وأولياء إبليس وأحبابه وإخوانه ، وإذا ناح منهم نائح على إبليس ، رأيت من البكاء والحنين أمرا عجبا ، ورأيت من تظلم الأقدار واتهام الجبار ما يبدو على فلتات ألسنتهم ، وصفحات وجوههم ، وتسمع من أحدهم من التظلم ، والتوجع ما تسمعه من الخصم المغلوب العاجز عن خصمه ، قال : فهؤلاء الذين قال فيهم شيخ الإسلام ابن تيمية في تائيته :
وتدعى خصوم الله يوم معادهم إلى النار طرا فرقة القدرية