( وأما المقام الثاني ) : وهو انتفاء اللازم وثبوته ، فالناس فيه هاهنا ثلاث طرق . أحدهما : التزام ذلك . وهذا قول والقول بالوجوب والتحريم العقليين شاهدا وغائبا المعتزلة ، هؤلاء يقولون : يترتب الوجوب شاهدا ويترتب المدح والذم عليه . وأما الصفات فلهم فيها اختلاف وتفصيل ، فمن أثبته منهم يقولون : إن العذاب الثابت بعد الإيجاب الشرعي نوع آخر غير العذاب الثابت على الإيجاب العقلي ، وبذلك يجيبون عن النصوص النافية للعذاب قبل البعثة . وأما فهم مصرحون بهما ويفسرون ذلك باللزوم الذي أوجبته حكمته ، وأنه يستحيل عليه خلافه ، كما يستحيل عليه الحاجة ، والنوم ، والتعب ، واللغوب ، فهذا الإيجاب والتحريم العقليان غائبا - عندهم ، فهو وجوب اقتضته ذاته وحكمته ، وامتناع مستحيل عليه الاتصاف به لمنافاته كماله وغناه ، قالوا : وهذا في الأفعال نظير ما يقول أهل السنة في الصفات أنه يجب له كذا ويمتنع عليه كذا ، فكما أن ذاك وجوب وامتناع ذاتي يستحيل عليه خلافه ، فهكذا ما تقتضيه حكمته وتأباه يستحيل عليه الإخلال به ، وإن كان مقدورا له ، لكنه لا يخل به لكمال حكمته وعلمه وغناه . ( الفرقة الثانية ) منعت ذلك جملة وأحالت القول به وجوزت على الرب - تعالى - كل شيء ممكن ، وردت معنى الوجوب والامتناع في حق الله - تعالى - إلى غير الممكن من المحالات كالجمع بين النقيضين وبابه ، فقابلوا الإحالة والامتناع في أفعاله - تعالى المعتزلة أشد مقابلة واقتسما طرفي الإفراط والتفريط ، ورد هؤلاء الوجوب ، والتحريم الذي جاءت به النصوص إلى مجرد صدق الخبر ، فما أخبر أنه يكون فهو واجب لتصديق [ ص: 288 ] خبره ، وما أخبر أنه لا يكون فهو ممتنع لتصديق خبره ، والتحريم عندهم راجع إلى مطابقة العلم لمعلومه ، والمخبر لخبره ، وقد يفسرون التحريم بالامتناع عقلا كتحريم الظلم على نفسه ، فإنهم يفسرونه بالمستحيل لذاته كالجمع بين النقيضين ، وليس عندهم في المقدور شيء هو ظلم يتنزه الله عنه مع قدرته عليه وحكمته وعدله ، فهذا قول الأشعرية ومن وافقهم .
( الفرقة الثالثة ) هم الوسط بين هاتين الفرقتين ، فإن ، حرمت عليه وأوجبت ما لم يحرم على نفسه ولم يوجبه على نفسه ، والفرقة الثانية جوزت عليه ما يتعالى ويتنزه عنه لمنافاته حكمته وكماله ، والفرقة الوسط أثبتت له ما أثبته لنفسه من الإيجاب ، والتحريم الذي هو مقتضى أسمائه وصفاته الذي لا يليق به ، نسبته إلى ضده ; لأنه موجب كماله وحكمته وعدله ، ولم تدخله تحت شريعة وضعتها بعقولها ، كما فعلت الفرقة الأولى ولم تجوز عليه ما نزه نفسه عنه كما فعلت الفرقة الثانية ، قالت الفرقة الوسط : قد أخبر الله - تعالى - أنه حرم الظلم على نفسه ، كما قال على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - : " الفرقة الأولى أوجبت على الله شريعة بعقولها " وقال : يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي ولا يظلم ربك أحدا وقال : وما ربك بظلام للعبيد وقال : ولا تظلمون فتيلا فأخبر بتحريمه على نفسه ، ونفى عن نفسه فعله وإرادته ، ، بحسب أصولهم وقواعدهم . أحدها : أنه نظير الظلم من الآدميين بعضهم لبعض ، فشبهوه في الأفعال ما يحسن منها وما لا يحسن بعباده ، فضربوا له من قبل أنفسهم الأمثال فصاروا بذلك مشبهة ممثلة في الأفعال ، وامتنعوا من إثبات المثل الأعلى الذي أثبته لنفسه ، ثم ضربوا له الأمثال ومثلوه في أفعاله بخلقه كما أن الجهمية المعطلة امتنعت من إثبات المثل الأعلى الذي أثبته لنفسه ثم ضربوا له الأمثال ومثلوه في صفاته بالجمادات الناقصة بل بالمعدومات ، وأهل السنة نزهوه عن هذا وهذا وأثبتوا ما أثبته لنفسه من صفات الكمال ونعوت الجلال ، ونزهوه فيها عن الشبيه ، والمثال ، فأثبتوا له المثل الأعلى ولم يضربوا له الأمثال ، فكانوا أسعد الناس بمعرفته وأحقهم بولايته ومحبته ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء . وللناس في تفسير هذا الظلم الذي حرمه على نفسه تعالى وتنزه عن فعله وإرادته ثلاثة أقوال
ثم التزم أصحاب [ ص: 289 ] هذا التفسير عنه من اللوازم الباطلة ما لا قبل لهم به ، فقالوا : إذا أمر العبد ولم يعنه بجميع مقدوره - تعالى - من وجوه الإعانة ؛ فقد ظلمه ، والتزموا أنه لا يقدر أن يهدي ضالا كما زعموا أنه لا يقدر أن يضل مهتديا ، وقالوا : إنه إذا أمر اثنين بأمر واحد ، وخص أحدهما بإعانته على فعل المأمور ؛ كان ظالما ، وإنه إذا اشترك اثنان في ذنب يوجب العقاب فعاقب أحدهما وعفا عن الآخر ؛ كان ظالما ، إلى غير ذلك من اللوازم الباطلة التي جعلوا لأجلها ترك تسويته بين عباده في فضله وإحسانه ظلما .
فعارضهم أصحاب التفسير الثاني وقالوا : الظلم المنزه عنه من الأمور الممتنعة لذاتها ، فلا يجوز أن يكون مقدورا له - تعالى ، ولا أنه تركه بمشيئته واختياره ، وإنما هو من باب الجمع بين الضدين وجعل الجسم الواحد في مكانين وقلب القديم محدثا ، والمحدث قديما ، ونحو ذلك ، وإلا فكل ما يقدره الذهن وكان وجوده ممكنا ، والرب قادر عليه ، فليس بظلم سواء فعله أو لم يفعله ، وتلقى هذا القول عنهم طوائف من أهل العلم وفسروا الحديث به ، وأسندوا ذلك وقووه بآيات وآثار زعموا أنها تدل عليه كقوله تعالى : إن تعذبهم فإنهم عبادك يعني لم تتصرف في غير ملكك ، بل إنما عذبت من تملك ، وعلى هذا فجوزوا تعذيب كل عبد له ولو كان محسنا ، ولم يروا ذلك ظلما ، وبقوله تعالى : لا يسأل عما يفعل وهم يسألون وبقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " إن " وبما روي عن الله لو عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم ، قال : ما ناظرت بعقلي كله أحدا إلا إياس بن معاوية القدرية ، قلت لهم : ما الظلم ؟ قالوا : أن تأخذ ما ليس لك ، وأن تتصرف فيما ليس لك . قلت : فلله كل شيء ، والتزم هؤلاء عن هذا القول لوازم باطلة ، كقولهم : إن الله - تعالى - يجوز عليه أن يعذب أنبياءه ورسله وملائكته وأولياءه وأهل طاعته ، ويخلدهم في العذاب الأليم ، ويكرم أعداءه من الكفار ، والمشركين ، والشياطين ، ويخصهم بجنته وكرامته ، وكلاهما عدل وجائز عليه ، وأنه يعلم أنه لا يفعل ذلك بمجرد خبره ، فصار ممتنعا ; لإخباره أنه لا يفعله لا لمنافاة حكمته ، ولا فرق بين الأمرين بالنسبة إليه ، ولكن أراد هذا وأخبر به وأراد الآخر وأخبر به ، فوجب هذا لإرادته وخبره ، وامتنع ضده لعدم إرادته وإخباره بأنه لا يكون .
والتزموا أيضا أنه يجوز [ ص: 290 ] أن يعذب الأطفال الذين لا ذنب لهم أصلا ، ويخلدهم في الجحيم ، وربما قالوا بوقوع ذلك . فأنكر على الطائفتين معا أصحاب التفسير الثالث ، وقالوا : الصواب الذي دلت عليه النصوص أن ، وتنزه عنه فعلا وإرادة ، هو ما فسره به سلف الأمة وأئمتها أنه لا يحمل عليه سيئات غيره ، ولا يعذب بما لا تكتسب يداه ، ولم يكن سعى فيه ، ولا ينقص من حسناته ، فلا يجازى بها ، أو ببعضها إذا قارنها ، أو طرأ عليها ما يقتضي إبطالها ، أو اقتصاص المظلومين منها . الظلم الذي حرمه الله على نفسه
وهذا الظلم الذي نفى الله - تعالى - خوفه عن العبد بقوله : ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما قال السلف والمفسرون : لا يخاف أن يحمل عليه سيئات غيره ، ولا ينقص من حسناته ، فهذا هو المعقول من الظلم ومن عدم خوفه ، وأما الجمع بين النقيضين ، وقلب القديم محدثا ، والمحدث قديما ، فمما يتنزه كلام آحاد العقلاء عن تسميته ظلما ، وعن نفي خوفه عن العبد فكيف بكلام رب العالمين ؟ ! .
قالوا : وأما استدلالكم بتلك النصوص الدالة على أنه سبحانه إن عذبهم فإنهم عباده ، وأنه غير ظالم ، وأنه لا يسأل عما يفعل ، وأن قضاءه فيهم عدل ، وبمناظرة إياس للقدرية فهذه النصوص وأمثالها كلها حق ، يجب القول بموجبها ولا تحرف معانيها ، والكل من عند الله ، ولكن أي دليل فيها يدل على أنه يجوز عليه - تعالى - أن يعذب أهل طاعته ، وينعم أهل معصيته ، ويعذب بغير جرم ، ويحرم المحسن جزاء عمله ، ونحو ذلك ، بل كلها متفقة متطابقة دالة على كمال القدرة ، وكمال العدل ، والحكمة ، فالنصوص التي ذكرناها تقتضي كمال عدله وحكمته وغناه ، ووضعه العقوبة ، والثواب مواضعهما ، وأنه لم يعدل بهما عن مسببها ، والنصوص التي ذكرتموها تقتضي كمال قدرته وانفراده بالربوبية والحكم ، وأنه ليس فوقه آمر ولا ناه يتعقب أفعاله بسؤال ، وأنه لو عذب أهل سماواته وأرضه ، لكان ذلك تعذيبا لحقه عليهم ، وكانوا إذ ذاك مستحقين للعذاب ; لأن أعمالهم لا تفي بنجاتهم كما قال - صلى الله عليه وسلم - : " " فرحمته لهم ليست في مقابلة أعمالهم ، ولا هي ثمنا لها ، فإنها خير منها ، كما قال الحديث نفسه " ولو رحمهم لكانت [ ص: 291 ] رحمته لهم خيرا من أعمالهم " . فجمع بين الأمرين في الحديث ، إنه لو عذبهم لعذبهم باستحقاقهم ، ولم يكن ظالما ، وأنه لو رحمهم لكان ذلك مجرد فضله وكرمه ، لا بأعمالهم إذ رحمته خير لهم من أعمالهم ، فطاعات العبد كلها لا تكون في مقابلة نعم الله عليهم ، ولا مساوية لها ، بل ولا للقليل منها ، فكيف يستحقون بها على الله النجاة ، وطاعة المطيع لا نسبة لها إلى نعمة من نعم الله عليه ، فتبقى سائر النعم تتقاضاه شكرا ، والعبد لا يقوم بمقدوره الذي يجب لله عليه ، فجميع عباده تحت عفوه ورحمته وفضله ، فما نجا منهم أحد إلا بعفوه ومغفرته ، ولا فاز بالجنة إلا بفضله ورحمته ، وإذا كانت هذه حال العباد ، فلو عذبهم لعذبهم وهو غير ظالم لهم ، لا من حيث كونه قادرا عليهم ، وهم ملك له ، بل لاستحقاقهم ، ولو رحمهم لكان ذلك بفضله لا بأعمالهم ، ويأتي لهذا مزيد تحرير ، والله أعلم : لن ينجي أحدا منكم عمله " قالوا : ولا أنت يا رسول الله قال : " ولا أنا ، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل