المجلس الثالث :
في ذكر الصلاة
الحمد لله الذي أوضح سبيل هدايته لأرباب ولايته ، وأبهج وحرك أهل عبادته إلى معاملته وأزعج ، وأبدع بدائع قدرته في محكم صنعه وأخرج ، وأوقد نيران محبته في أفئدة أحبته وأجج ، من عرف لطفه ثنى عطفه إليه وأدلج ، ومن خاف عتبه ترك ذنبه وتحرج ، يحب الإخلاص في الأعمال ، ولا يخفى عليه البهرج ، حليم فإن غضب مكر بالعبد واستدرج ، لا يغتر بحلمه فكم عقاب في الحلم أدرج ، واعتبر بأبيك إذ فسح لنفسه في شهوة وأمرج ، وحام حولى المنهي اغترارا بالصفح وعرج ، كيف أصبح إكرامه بمرير الهوان يمزج ، وأضحى بنسج الصوف إذ عري عما ينسج ، وصار مغبر القدمين بعد فرس العز المسرج ، ولم تزل تجري دموع عينيه إلى أن تاب عليه وفرج ، لا يخفى عليه ضمير القلب ، وإن تلوى اللسان ومجمج ، ولا يغيب عن بصره في سواد الليل طرف أدعج ، يبصر جري اللبن يسري في العروق نحو المخرج ، وينزل إلى السماء الدنيا فأين الذي بالمناجاة يلهج ، فيستعرض الحوائج إلى أن يلوح الفجر ويتبلج ، وما انتقل ومن عقل رأى الحق أبلج ، هذا مذهب من القرآن القديم ، والنقل القويم مستخرج ، وهو المنهاج العظيم فلا تعرج عن المنهج .
أحمده على ما سر وما أزعج ، وأشهد بوحدانيته بغير تلجلج ، شهادة موقن ما لجلج ، وأن محمدا عبده ورسوله الذي محاسن الشرائع في شريعته تدرج ، صلى الله عليه وعلى أول من أنفق من ماله وأخرج ، وعلى أبي بكر الذي اضطر عمر كسرى إلى الهرب وأحوج ، وعلى المظلوم وقد عذل وما عدل ولا عرج ، وعلى عثمان مبيد الطغاة وآخرهم المخدج ، وعلى عمه علي الذي قرن الله نسبه بنسب الرسول وأزوج . العباس
أخبرنا ، قال : حدثنا هبة الله بن محمد الحسين بن علي التميمي ، أنبأنا ، حدثنا أحمد بن جعفر ، حدثني أبي ، حدثنا عبد الله بن أحمد ، سمعت الوليد بن مسلم يقول : حدثني الأوزاعي الوليد بن هشام المعيطي ، حدثنا معدان بسنده إلى ابن أبي طلحة اليعمري ، قال : صلى الله عليه وسلم فقلت : أخبرني بعمل أعمله يدخلني الجنة ، أو قال : قلت بأحب الأعمال إلى الله ، فسكت ثم سألته الثانية فسكت ، ثم سألته الثالثة فقال : [ ص: 586 ] سألت عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " عليك بكثرة السجود ، فإنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة ، وحط عنك بها خطيئة " ، قال ثوبان مولى رسول الله معدان : ثم لقيت فسألته فقال لي مثل ما قال لي أبا الدرداء . ثوبان لقيت
انفرد بإخراجه . مسلم
اعلم أن لأنها أوفى خدمة العبد ، والمراد من العبد التعبد ، وهي جامعة بين خضوع بدنه ونطق لسانه وحضور قلبه ، وإن الله تعالى جعل عبادة ملائكته بين سجود وركوع وذكر ، وذلك مجموع في الصلاة ، وليس لنا فعل يدخل به الكافر في حكم الإسلام ويخرج بتركه المسلم من الإسلام إلا الصلاة ، فإن عندنا أن الكافر إذا صلى حكم بإسلامه سواء صلى مع جماعة أو منفردا ، فيجبر عندنا على الإسلام . وعن الله عز وجل عظم قدر الصلاة روايتان إحداهما كقولنا . والثانية : اشترط أن يكون في جماعة . وقال أبي حنيفة : إذا صلى الحربي في دار الإسلام حكم بإسلامه . الشافعي
وأما فلا يختلف مذهبنا عن مذهب تارك الصلاة رضي الله عنه أنه يقتل حدا أو كفرا . فيه روايتان . إحداهما : يقتل لكفره ، وهو قول أحمد ، عمر ، وابن مسعود وجماعة ، وابن عباس ، وجابر ، والشعبي رضي الله عنهم . وقد دل على هذا ما أخرجه والأوزاعي في أفراده من حديث مسلم جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : . " بين العبد وبين الكفر ترك صلاة "
والرواية الثانية : يقتل حدا لا أنه يكفر . وهو قول مالك . وقال والشافعي : يحبس ولا يستتاب ولا يقتل . أبو حنيفة
واعلم أن الشرع عظم أمر الصلاة وضرب الأمثال بفضلها .
أخبرنا عبد الملك بن أبي القاسم ، أنبأنا أبو عامر الأزدي ، وأبو بكر الغورجي ، قالا : أخبرنا أبو محمد الجراحي ، أنبأنا أبو العباس المحبوبي ، أنبأنا الترمذي ، حدثنا قتيبة ، حدثنا عن الليث أبي الهادي عن عن محمد بن إبراهيم ، عن أبي سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أبي هريرة . " أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمس مرات هل يبقى من درنه شيء قالوا : لا . قال فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا "
أخرجاه في الصحيحين .
[ ص: 587 ] وفي أفراد من حديث مسلم رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : أبي هريرة . " الصلوات الخمس ، والجمعة إلى الجمعة ، ورمضان إلى رمضان ، مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر "
وفي أفراده من حديث رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : عثمان . " ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم تؤت كبيرة ، وذلك الدهر كله "
أخبرنا سعيد بن أحمد بسنده إلى عن مجاهد رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : عبد الله بن عمر . " استقيموا ولن تحصوا ، واعلموا أن فضل أعمالكم الصلاة ، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن "
وقد فضل الشرع تقديم الصلاة في أول الوقت .
ففي الصحيحين من حديث رضي الله عنه قال : ابن مسعود . سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أي العمل أحب إلى الله تعالى ؟ قال : " الصلاة على وقتها "
وفضلت الصلاة في الجماعة .
ففي الصحيحين من حديث رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ابن عمر . " صلاة الجماعة تفضل على الصلاة الفذ بسبع وعشرين درجة "
وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : أنس بن مالك . " من صلى أربعين يوما في جماعة لم تفته ركعة واحدة كتب الله له برائتين : براءة من النار ، وبراءة من النفاق "
أخبرنا محمد بن ناصر بسنده قال سمعت البغوي عبد الله بن عمر القواريري يقول : لم تكن تفوتني صلاة العتمة في جماعة ، فنزل بي ضيف فشغلت به ، فخرجت أطلب الصلاة في قبائل البصرة فإذا الناس قد صلوا وخلت القبائل ، فقلت في نفسي روي عن [ ص: 588 ] النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : . وروي " سبعا وعشرين " . فانقلبت إلى منزلي فصليت العتمة سبعا وعشرين مرة ، ثم رقدت فرأيتني مع قوم راكبي أفراس وأنا راكب فرسا كأفراسهم ، ونحن نتجارى فالتفت إلي أحدهم فقال : لا تجهد فرسك بلحاقنا ، فقلت : فلم ذاك ؟ قال : إنا صلينا العتمة في جماعة . " صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذ خمسا وعشرين درجة "
وورد . الثواب لمنتظر الصلاة
فروي في الصحيحين من حديث رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : أبي هريرة . " لا يزال أحدكم في صلاة ما كانت الصلاة تحبسه لا يمنعه إلا انتظارها "
وفي حديث رضي الله عنهما لا يزال أحدكم في صلاة ما كانت الصلاة تحبسه لا يمنعه إلا انتظارها " . عبد الله بن عمر
وفي حديث رضي الله عنهما ، قال : عبد الله بن عمر . صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المغرب فعقب من عقب ، ورجع من رجع ، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يحسر ثيابه عن ركبتيه فقال : " أبشروا يا معشر المسلمين ، فهذا ربكم قد فتح بابا من أبواب السماء يباهي بكم الملائكة يقول : " هؤلاء عبادي قضوا فريضة وهم ينتظرون أخرى "
وقد عظم الصف الأول فروي في الصحيحين من حديث رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال أبي هريرة . " لو يعلم الناس ما في الصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا لاستهموا "
وفي أفراد من حديث مسلم أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : أبي هريرة . " لو يعلم الناس ما في الصف المقدم لكانت قرعة "
وقد أمر المصلي بخفض رأسه استعمالا لأدب الخدمة ، فروى في أفراده من حديث مسلم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : جابر بن سمرة . " لينتهين أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة أو لا ترجع إليهم "
وأمر المصلي بالتثبت في الركوع والسجود ، حدثنا الكروخي بسنده عن عمير عن عن أبي [ ص: 589 ] معمر ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أبي مسعود الأنصاري . " لا تجزئ صلاة لا يقيم فيها الرجل يعني صلبه في الركوع والسجود "
وفي حديث ابن شيبان عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : . " لا ينظر الله تعالى إلى رجل لا يقيم صلبه في الركوع والسجود "
واعلم أن المقصود بالصلاة إنما هو تعظيم المعبود ، وتعظيمه لا يكون إلا بحضور القلب في الخدمة . وقد كان في السلف من يتغير إذا حضرت الصلاة ويقول : أترون بين يدي من أريد أن أقف ؟ !
وأنت تعلم أن من حضر قلبه في تعظيم سلطانه فحضر بين يديه من يعرف من إلى جانبه امتلأ بهيبة المعظم ، فإذا أردت استجلاب حضور قلبك الغائب ففرغه من الشواغل مهما استطعت .
وقد كان أرباب التفكر من السلف يشاهدون في كل شيء عبرة ، فيذكرون بالأذان نداء العرض ، وبطهارة البدن تطهير القلب ، وبستر العورة طلب ستر القبائح من عيوب الباطن ، وباستقبال القبلة صرف القلب إلى المقلب ، فمن لم تكن صلاته هكذا فقلبه غافل .
يا هذا إذا صليت والقلب غائب وجوده فالصلاة كالعدم ، وهو بالروم مقيم وله بالشام قلب ، يا ذاهل القلب في الصلاة حاضر الذهن في الهوى ، جسده في المحراب وقلبه في بلاد الغفلة .
جاء مملوك إلى سيده فقال : ضاعت مخلاة الفرس ، فقام السيد يصلي ، فلما فرغ من الصلاة قال : هي في موضع كذا وكذا : فقال الغلام : يا سيدي أعد الصلاة فإنك كنت تفتش على المخلاة !
قال : يابن الحسن آدم إذا هانت عليك صلاتك فما الذي يعز عليك ؟
ولما كان المطلوب حضور القلب جاء الوعد بالثواب الجزيل عليه . أخبرنا بسنده عن ابن الحصين عن زيد بن أسلم زيد بن خالد الجهني ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : . " من صلى سجدتين لا يسهو فيهما غفر الله له ما تقدم من ذنبه "
[ ص: 590 ] وفي حديث رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : عبادة بن الصامت . " من توضأ فأسبغ الوضوء ، ثم قام إلى الصلاة فأتم ركوعها وسجودها والقراءة فيها قالت : حفظك الله كما حفظتني . ثم يصعد بها إلى السماء ولها ضوء ونور فتفتح لها أبواب السماء حتى تنتهي إلى الله عز وجل فتشفع لصاحبها . فإذا لم يتم ركوعها ولا سجودها ولا القراءة فيها قالت : ضيعك الله كما ضيعتني . ثم أصعدت إلى السماء وعليها ظلمة فأغلقت دونها أبواب السماء فلفت كما يلف الثوب الخلق ، فيضرب بها وجه صاحبها "