[ ص: 1334 ] الفصل الخامس
في أحكام ضيافتهم للمارة بهم وما يتعلق بذلك .
257 - فصل
قالوا : " وأن نضيف كل مسلم عابر سبيل ثلاثة أيام ونطعمه من أوسط ما نجد " .
هكذا في كتاب الشروط " ثلاثة أيام " وقال ، عن يحيى بن سعيد عبيد الله ، عن نافع ، عن أسلم : كتب عمر إلى أمراء الجزيرة أن " لا تضربوا جزية على النساء والصبيان ، وجزية أهل الشام وأهل الجزيرة أربعة دنانير على أهل الذهب وأربعون درهما على أهل الورق ، وأن " . يضيفوا من نزل بهم من المسلمين ثلاثا
والأصل في ذلك من السنة ما رواه أبو عبيد في كتاب " الأموال " : [ ص: 1335 ] حدثني أبو أيوب الدمشقي قال : حدثني سعدان بن يحيى ، عن عبيد الله بن أبي حميد ، عن : أبي المليح الهذلي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صالح أهل نجران فكتب لهم كتابا نسخته : " بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا ما كتب محمد رسول الله ، صالح أهل نجران ؛ إذ كان له حكمه عليهم أن في كل سوداء وبيضاء وصفراء وحمراء وثمرة ورقيق ، وأفضل عليهم ، وترك ذلك لهم : ألفي حلة ، في كل صفر ألف حلة ، وفي كل رجب ألف حلة ؛ كل حلة أوقية ما زاد الخراج أو نقص ، فعلى الأواقي فليحسب ، [ وما قضوا من ركاب أو خيل أو دروع أخذ منهم بحساب ] وعلى أهل نجران [ مقرى ] رسلي عشرين ليلة [ فما دونها ] " .
قال أبو عبيد : قوله " كل حلة أوقية " يقول : ثمنها أوقية .
وقوله : " فما زاد الخراج أو نقص فعلى الأواقي "
[ يعني بالخراج العلل ] يقول : إن نقصت من الألفين أو زادت في العدد أخذت بقيمة الألفي الأوقية ، فكأن الخراج إنما وقع على الأواقي وجعلها حللا ؛ لأنه أسهل [ ص: 1336 ] عليهم [ من المال ] " .
فهذا هو الأصل في وجوب الضيافة على أهل الذمة ، سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسنه الخليفة الراشد عمر رضي الله عنه ، وفي ذلك مصلحة لأغنياء المسلمين وفقرائهم .
أما الأغنياء فإنه إذا لم يكن على أهل الذمة ضيافتهم فربما إذا دخلوا بلادهم لا يبيعونهم الطعام ، ويقصدون الإضرار بهم ، فإذا كانت عليهم ضيافتهم تسارعوا إلى منافعهم خوفا من أن ينزلوا عليهم للضيافة فيأكلون بلا عوض .
وأما مصلحة الفقراء فهو ما يحصل لهم من الارتفاق ، فلما كان في ذلك مصلحة لعموم المسلمين جاز اشتراطه على أهل الذمة .
قال الخلال في " الجامع " باب في الضيافة التي شرطت عليهم :
أخبرني محمد بن علي ، حدثنا أنه سأل مهنا أبا عبد الله عن حديث : " جعل ابن أبي ليلى عمر رضي الله عنه على أهل السواد وعلى أهل الجزية يوما وليلة " قال : قلت لأحمد : ما يوم وليلة ؟ قال : يضيفونهم .
[ ص: 1337 ] وقال حمدان بن علي : قلت لأحمد : رضي الله عنه جعل على أهل السواد وأهل الجزية يوما وليلة ، فكنا إذا تولينا عليهم قالوا : شبا شبا . قلت عمر بن الخطاب لأحمد : ما يوم وليلة ؟ قال : يضيفونهم ، قلت : ما قولهم : شبا شبا ؟ قال : هو بالفارسية ؛ ليلة ليلة .
وقال عبد الله بن أحمد : حدثني أبي قال : حدثني ، ثنا وكيع هشام ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن : أن الأحنف بن قيس عمر رضي الله عنه شرط [ ص: 1338 ] على أهل الذمة ضيافة يوم وليلة ، وأن يصلحوا [ القناطر ] وإن قتل رجل من المسلمين بأرضهم فعليهم ديته .
قال : وحدثنا أبي ، حدثنا ، عن وكيع أبي إسحاق ، عن حارثة بن مضرب : أن عمر رضي الله عنه اشترط على أهل الذمة ضيافة يوم وليلة ، فإن حبسهم مطر أو مرض فيومين ، فإن مكثوا أكثر من ذلك أنفقوا من أموالهم ويكلفون ما يطيقون .
[ ص: 1339 ] قال القاضي في " الأحكام السلطانية " : وإذا صولحوا على ضيافة ثلاثة أيام من يمر بهم من المسلمين ، قدرت عليهم وأخذوا بها ثلاثة أيام لا يزادون عليها ، كما صالح عمر نصارى الشام على ضيافة من يمر بهم من المسلمين ثلاثة أيام مما يأكلون لا يكلفونهم ذبح شاة ولا دجاجة ، وتبن دوابهم من غير شعير ، وجعل ذلك على أهل السواد دون المدن .
قال : وقد روي عن أحمد كلام يدل على أن الذي شرط عليهم يوم وليلة .
ثم ذكر قول حمدان بن علي لأحمد ، وقد تقدم آنفا ، ثم ذكر حديث عن الأحنف بن قيس عمر ، وقد ذكرناه .
قال القاضي : وكذلك الضيافة في حق المسلمين ، الواجب يوم وليلة .
قال أحمد في رواية حنبل : قد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ، وهو دين له . قلت له : كم مقدار ما يقدر له ؟ قال : يمونه في الثلاثة أيام التي [ ص: 1340 ] قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : واليوم والليلة هو حق واجب .
فقد بين أن المستحب ثلاثة أيام ، والواجب يوم وليلة .
وقال في رواية حنبل وصالح : فكانت جائزته أوكد من الثلاثة . الضيافة ثلاثة أيام ، وجائز يوم وليلة
قال : وقد روى الخلال ما دل على الاستحباب والإيجاب ، فروى بإسناده عن المقدام أبي كريمة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " " . يعني إذا لم يضف . ليلة الضيف حق واجب ، فإذا أصبح في فنائه فهو دين عليه إن شاء اقتضاه الدين وإن شاء ترك
وبإسناده عن أبي شريح [ الخزاعي ] قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " " . الضيافة ثلاثة أيام ، وجائزته يوم وليلة ، ولا يحل لمسلم أن يقيم عند أخيه حتى يؤثمه " . قال : يا رسول الله ، كيف يؤثمه ؟ قال : " يقيم عنده وليس عنده ما يقريه
[ ص: 1341 ] فحديث أبي كريمة : يدل على وجوب اليوم والليلة ، وحديث أبي شريح يدل على استحباب الثلاث .
فالضيافة في حق الكفار والمسلمين واجبة على كلا الحديثين ، لكنهما يختلفان في ، ويختلفان في حكمين آخرين : قدر الوجوب والاستحباب
أحدهما : أنها في حق المسلمين تجب ابتداء بالشرع ، وفي حق الكفار تجب بالشرط .
والثاني : أنها في حق المسلمين تعم أهل القرى والأمصار ، وفي حق الكفار تختص بأهل القرى .
قال أحمد في رواية أبي الحارث : الضيافة تجب على كل مسلم ، من كان من أهل الأمصار وغيرهم من المسلمين .
وقال في موضع آخر : تجب الضيافة على المسلمين كلهم ، من نزل به ضيف عليه أن يضيفه .
والفرق بينهما أن عمر رضي الله عنه شرط ذلك على أهل القرى ، والأخبار الواردة في حق المسلمين عامة لقوله : " " وفي لفظ آخر : " ليلة الضيف حق [ ص: 1342 ] واجب " . الضيافة ثلاثة أيام
وتجب الضيافة على المسلم للمسلمين والكفار لعموم الخبر ، وقد نص عليه أحمد في رواية حنبل وقد سأل : إن أضاف الرجل ضيفا من أهل الكفر يضيفه ؟ فقال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " " فدل على أن المسلم والمشرك يضافان ، والضيافة معناها معنى صدقة التطوع على المسلم والكافر . ليلة الضيف حق واجب على كل مسلم
وهذا لفظ أحمد ، فقد احتج بعموم الخبر ، وأنه يعم المسلم والكافر ، وإذا نزل به الضيف ولم يضفه كان دينا على المضاف ، نص عليه في رواية حنبل فقال : إذا نزل القوم فلم يضافوا فإن شاء طلبه وإن شاء ترك ، قال له : فكم مقدار ما يقدر له ؟ قال : ما يمونه في الثلاثة الأيام ، واليوم والليلة حق واجب . قال له : فإن لم يضيفوه ترى له أن يأخذ من أموالهم بمقدار ما يضيفه ؟ قال : لا يأخذ إلا بعلم أهله ، وله أن يطالبهم بحقه .
فقد نص على أن له المطالبة بذلك ، وهذا يدل على ثبوته في ذمته لقوله في حديث [ أبي كريمة ] : " " . ومنع من أن يأخذ من مال [ ص: 1343 ] من يجب عليه الضيافة بغير إذنه إلا بعلم أهله ؛ إذ من كان له على رجل حق وامتنع من أدائه وقدر له على حق لم يجز له أن يأخذ بغير إذنه ، انتهى . فإن أصبح بفنائه فهو دين عليه إن شاء اقتضاه وإن شاء يترك
فأما قوله : " إن اليوم والليلة حق واجب والثلاثة مستحبة " فهذا صحيح في حق المسلمين .
وأما في حق أهل الذمة فلا يمكن أن يقال ذلك ، فإن الثلاثة إن كانت مشروطة عليهم فهي حق لازم ، عليهم القيام به للمسلمين ، وإن لم تكن مشروطة عليهم لم يجز للمسلمين تناول ما زاد على اليوم والليلة إلا برضاهم ، وحينئذ لا فرق بين الثلاثة وما زاد عليها ، وعمر رضي الله عنه لم يشرط على طائفة معينة بل شرط على نصارى الشام والجزيرة وغيرهما ، ففي شرطه على نصارى الشام والجزيرة ضيافة ثلاثة أيام ليسارهم وإطاقتهم ذلك ، وأما نصارى السواد فشرط عليهم يوما وليلة ؛ لأن حالهم كان دون حال نصارى الشام والجزيرة .
فكان عمر رضي الله عنه يراعي في ذلك حال أهل الكتاب كما كان يراعي حالهم في الجزية وفي الخراج ، فبعضهم شرطها عليهم يوما وليلة وبعضهم شرطها عليهم ثلاثا .
وأما قوله : " إنهم إذا لم يقوموا بما عليهم وقدر لهم على مال لم يأخذه بناء على مسألة الظفر " فليس كذلك ، والسنة قد فرقت بين هذا وبين مسألة الظفر التي لا يجوز الأخذ بها .
[ ص: 1344 ] إن سبب الحق هاهنا ظاهر فلا ينسب الآخذ إلى جناية لظهور حقه بخلاف ما إذا لم يكن ظاهرا ، ولهذا أفتى النبي صلى الله عليه وسلم هندا بأن ( تأخذ من مال زوجها ما يكفيها وولدها بالمعروف ) كما جوز للضيف أن يأخذ مثل قراه إذا لم يضف ، فجاءت السنة بالأخذ في هذين الموضعين ، وجاءت بالمنع لمن سأله : إن لنا جيرانا لا يدعون لنا سادة ولا قادة إلا أخذوها ، أفنأخذ من أموالهم ؟ الحديث . فقال : " " . أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك
فمنع هاهنا وأطلق هناك ، وكان الفرق بينهما من وجهين :
أحدهما : ما ذكرناه من ظهور سبب الحق ؛ لتعذر الأخذ وخفائه [ ص: 1345 ] فينسب إلى الجناية .
الثاني : أن سبب الحق يتحدد في مسألة النفقة والضيافة قياسا ، فتمتنع الدعوى فيه كل وقت ، والرفع إلى الحاكم وإقامة البينة بخلاف ما لا ينكر سببه .
إذا عرف هذا فعمر رضي الله عنه لم يشترط قدر الطعام والإدام والعلف فلا يشترط ذلك ، وإنما يرجع فيه إلى عادة كل قوم وعرفهم وما لا يشق عليهم ، فلا يجوز للضيف أن يكلفهم اللحم والدجاج وليس ذلك غالب قوتهم ، بل يجب عليه أن يقبل ما يبذلونه من طعامهم المعتاد كما أوجب الله سبحانه الإطعام في الكفارة من أوسط ما يطعم المكفر أهله من غير تقدير ، وكما أوجب النبي صلى الله عليه وسلم النفقة على الزوجة والمملوك بالعرف من غير تقدير . فهذه سنته وسنة خلفائه في هذا الباب ، وبالله التوفيق .
وهذه الضيافة قدر زائد على الجزية ، ولا تلزمهم إلا بالشرط ، ويكفي شرط عمر رضي الله عنه على ممر الأزمان سواء شرطه عليهم من بعده من الأئمة أو لم يشرطه ؛ لأن شرطه سنة مستمرة ، ولهذا عمل به الأئمة بعده ، واحتج الفقهاء بالشروط العمرية وأوجبوا اتباعها .
هذا هو الصحيح ، كما أن شرطه عليهم في الجزية مستمر وإن لم يجدده عليهم إمام الوقت ، وكذلك عقد الذمة لمن بلغ من أولادهم وإن لم يعقد لهم الإمام الذمة .
قال : وتقسم الضيافة على عدد الشافعي أهل الذمة وعلى حسب الجزية التي شرطها ، فيقسم ذلك بينهم على السواء .
[ ص: 1346 ] وإن كان فيهم الموسر والمتوسط والمقل قسطت الضيافة على ذلك .
قال : ويذكر ما يعلف به الدواب من التبن والشعير وغير ذلك . الشافعي
قال : ويشترط عليهم أن ينزلوا في فضول منازلهم وكنائسهم ما يكنون فيه من الحر والبرد منها ؛ إذ الضيف محتاج إلى موضع يسكن فيه ويأوي إليه ما يحتاج إلى طعام يأكله .